قبل أن أبدأ قبل أن استهل رحلة الكتابة في هذا الموقع الفتّي، أود أن أتقدم بالشكر للشاعر المتميز و الكاتب الكبير أسامة مهران لدعوتي لأكون واحدًا من كتاب مباشر 24 .. و قبل أن أبدأ أيضا أستأذن كل القراء أن ألخص في مقالاتي تلك محطات تركت أثرها في شخصيتي و في مسيرتي المهنية التي بلغت نحو ثمانية و عشرين عاما في العمل الإعلامي و الصحفي تشرفت خلالها بلقاء مئات النماذج البشرية و خرجت بانطباعات كثيرة متباينة بين الحب و الإعجاب و الانبهار ، و غيرها من مشاعر الدهشة و الاستفزاز و ربما السخط أيضا على شخصيات ملأت دنيانا زخما .
نجوم التقيناهم فتكونت لدينا انطباعات تراوحت بين الإيجابي و السلبي ، و هم في النهاية بشر طالت عشرتنا لهم أو مروا على رحلتنا مرور الكرام فتركوا أطيب الأثر ،أو للأسف جعلونا نندم على لحظات أضعناها في لقاء عابر بهم. و ربما نتوقف عند شخصيات لا يكاد يعرفها إلا أهل حارتها الضيقة، لكنها تركت في النفس أجمل الذكريات .
و على هذا فقد اخترت ” هؤلاء ” عنوانا لهذه المنصة الأسبوعية و التي أعدكم أن التزم خلالها الصدق و بلوغ الحد الأقصى من المصارحة ما وجدت إلى ذلك سبيلا من إدارة التحرير ، و ما استشعرت سعة صدر القراء الأعزاء . و لنبدأ على بركة الله ..
أسامة مهران يكتب قصيدة جديدة بعنوان “مذكرة جوابية”
أخلاق الملوك
خبرت أخلاق الملوك و كيف تكون تربية الأمراء رغم أنني لم أكن قد قرأت بعد كتاب الجاحظ ” التاج في أخلاق الملوك ” . حدث هذا عندما تلقيت مكالمة هاتفية من الأردن مساء الخميس 18يناير عام 2008 ، بتحديد موعد يوم السبت التالي بناء على طلب سبق لي تقديمه إلكترونيا أبدي فيه رغبتي لإجراء حوار إذاعي مع سمو الأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن الأسبق والرئيس المؤسس لمنتدى الفكر العربي . تحدد الموعد على هامش مشاركة سمو الأمير في مؤتمر حوار الشعوب و الثقافات الذي استضافته مكتبة الإسكندرية .
قبل أن أتهيأ للّقاء هاتفت الإذاعية نبيلة مكاوي- رئيسة صوت العرب حينها- طالبا منها مشاركتي محاورة الأمير ، فقد كان هذا هو العُرف السائد في الأوساط الصحفية و الإعلامية حين ينجح مبتدئ في تحقيق صيد ثمين كهذا . لكن السيدة و بكل طيب خاطر و بشياكة أذكرها لها قالت لي مشجعة : أنت لها ، هذا هو موعدك و ترتيبك أنجز حوارك و أنا أثق بك ، و إن كنت أنصحك بأن تراجع نائبي الأستاذ صبري صبيحة في اسكريبت الحلقة قبل أن تغادر إلى الإسكندرية .
أخذت بالنصيحة و عرضت الأسئلة على رجل البرامج السياسية القدير ، فأثنى و شجع و حفزني على حسن الأداء . كنت قبلها بيومين قد تسلمت جهاز تسجيل إلكتروني يسمونه جهاز الدات ، فحدثتني نفسي أن أستخدمه لأول مرة في تسجيل الحوار . مضيت مع أذان الفجر لألحق موعد الأمير لأنني تعلمت من درسين قاسيين سابقين – قد آتي على ذكرهما في مقال قادم – أن موعدا كهذا لا يجوز التأخير عنه . ظللت طوال رحلة الميكروباص أراجع الأسئلة و طريقة الأداء ، إلى أن وصلت قبل الموعد بفترة كافية سمحت لي بالتقاط الأنفاس .
قبيل الموعد المحدد بنحو خمس دقائق كنت في ريسبشن أفخم فنادق الإسكندرية ، ليستقبلني أحد رجال مراسم سمو الأمير ، و لأجلس لأول مرة على طاولة واحدة ليس مع الأمير الحسن ، بل مع أمير على الإطلاق .
بدأت الحوار متمكنا ، مالكا أدواتي ، طاردا أي شعور برهبة ، واهما نفسي بقاعدة علمني إياها أساتذتي مفادها ” ضيفك – أيا كان هذا الضيف – رجل و أنت رجل ” . لن أبالغ فأقول إن هذه القاعدة هي التي تسببت في إذابة الجليد ، بل الحقيقة أن من نجح في هذا هو خُلق الأمير الحسن و تواضعه ، منذ لحظة دخوله علّي مرحبا إلى أن تهيأت و أخذت نفسا عميقا و هو يسألني كيف كانت رحلتي من القاهرة إلى الإسكندرية ، ثم بدأنا الحوار الراقي .
مرت حوالي 17 دقيقة من الحوار ، و عيناي تلمحان جهاز التسجيل بين فينة و أخرى، و إذ فجأة ألحظ توقف شريط الدات . لم يكن أمامي إلا أن أستوقف الأمير و أذكر له أن ثمت مشكلة تقنية، فيصمت الرجل، و بكل شياكة يمد يده إلى كتاب موجود على المنضدة متظاهرا بالانشغال في القراءة بينما تركني و جهازي محاولا إنطاقه، لكن بلا طائل . تدخل ياور الأمير سائلا إن كان الجهاز في حاجة إلى شحن كهربائي مثلا، فذكرت أن المؤشر يدلني أن البطارية بكامل طاقتها ما تزال .
مرت دقائق حسبتها دهرا ، و بدأ العرق يتصبب مني بغزارة شديدة ،و عيناي تلمحان الأمير بين فينة و أخرى و الرجل متشاغل بالقراءة . لم ألحظ منه إلا إشارة لأحد أفراد طاقم حراسته ، ظننت أنه يوعز إليه بطلب إنهاء اللقاء . لكن الحارس غادر الغرفة و مضى ليعود بعد نحو دقيقتين و هو يحمل جهاز كاسيت صغير الحجم جدا من تلك النوعية التي كان يستخدمها الزملاء من الصحفيين قبل انتشار أجهزة المحمول بقدرتها على تسجيل الحوارات.
أعطاني الرجل الجهاز و قال مبتسما : تفضل ، أكمل الحوار . وضع الأمير الكتاب من يديه و استدار ، لأستأنف .
بالطبع ، لم يكن لي أن أستغل كرم الرجل و أبدأ الحوار من جديد ، فاستكملت ما بقى من الأسئلة و أنا أتصبب عرقا خجلا من الرجل ، و قلقا على ما كنت قد أنجزته في الشريط الذي بدا لي تالفا . أنهيت الحوار بحمد الله ، فلم يغادر الأمير الحسن ، و لكنه ظل في مكانه حتى أغادر أولا . فهذه واحدة أخرى من أخلاق الأمراء التي خبرتها في هذا اللقاء ، إذ اعتبرني الرجل ضيفه ، و ليس للمضيف أن يغادر قبل ضيفه . و لكنه عاد فأمسك بكتابه من جديد .
هدأت نفسي نسبيا ، و قلت للأمير : معذرة سمو الأمير ، فهذه هي المرة الأولى التي أستخدم فيها هذا الجهاز ، لأنني تركت جهازي التقليدي القديم ، و استخدمت هذا الجهاز لأنجز حوارا بجودة صوت تليق بحوار مع الأمير الحسن . فضحك الرجل ضحكة هي أقرب للابتسامة و قال بصوته الجهوري المميز : لكي لا تتخلى عن قديمك بسهولة .
درس بسيط جدا في كلمات محدودة ، لكنه أثر في مسيرتي المهنية بل و في حياتي الشخصية حتى اليوم. إذ أصبحت متحفظا جدا في التفريط في أي ورقة ، أو قطعة ملابس ، فما بالكم بالأشخاص . صار التفريط في علاقتي بالآخر أو تجنبه أمرا نادرا و لا يتم إلا حين أستنفد كل محاولات الإصلاح ، فقد أضطر إلى الاستعانة بهذا الآخر لاحقا في موقف أو تجربة أو أزمة.