“ليلة العيد”.. للقاص أحمد ثروت
“ليلة العيد”.. للقاص أحمد ثروت
يا الله، ها قد وصلتُ بداية الشارع، ولم تنته محادثتي الهاتفية بعد، تباطأت حتى أستطيع التخلص منها، قبل الاقتراب من المنزل؛ فربما خرجت زوجتي للشرفة ولمحتني قادماً والهاتف فوق أذني، حينها سيجب عليّ ابتكار حكاية جديدة، عمّن كنت أتحدث معه.
ولماذا تسمرت مكاني للحظة، وأنا أحاول تسريع النهاية مع الطرف الآخر، دون أن أُظهر محاولتي تلك بشكل فج، لكنها عرفت ذلك من نبرة صوتي المنخفضة المتعجلة؛ “تريد أن تُنهي الحديث؟ هل وصلت؟”.
نهى مرجان تكتب: انتهت أحاديثنا الطويلة
في هذه اللحظة، عبر جواري شاب ثلاثيني بوجه متجهم، يحمل فوق كتفيه طفلًا يبكي، كان الطفل يحيط رقبة والده بذراعه. عبرا جواري، ثم مدّا السير للأمام قليلاً، بعدها توقف الرجل أمام منزل “الحاج عبده”، فأكملت سيري دون تروٍ، لكن حديث الرجل لفت انتباهي، فأنهيت المكالمة فجأة، كان صوته منخفضاً، يبدو أنه يحاول رفعه بجهد؛ حتى يسمعه الطرف الآخر، إنها زوجة الحاج يظهر خيالها في الشرفة المرتفعة، في الطابق الثالث ربما.
الرجل يحاول خفض صوته كلما ارتفع؛ حتى لا يسمعه العابرون، ويحاول في نفس الوقت رفعه حتى تسمعه زوجة الحاج، كان يبذل جهداً واضحاً في ضبط صوته. رغم انتهاء مكالمتي الهاتفية، ظللت واضعاً الهاتف فوق أذني، متظاهراً بالانشغال عن حوار الشاب، ثم عبرته بخطوات قليلة. سمعته ينادي “أخبري الحاج أنني بالأسفل”، كان صوت الزوجة مرتفعاً وهي تسأله عمّا يريد، فرفع الشاب صوته أكثر “أخبريه فقط أنني بالأسفل، إنه يعرف..”.
كان يجب عليّ التحرك حتى لا ألفت الانتباه، فوصلت منزلي بعد ثوان، أدرت المفتاح في ثقب البوابة، وأنا أنظر بنصف عين نحو الشاب، الذي لم يتزحزح عن موضعه.
بدا أن الحوار المتقطع ما زال مستمراً، وكان فضولي يتصاعد، فأغلقت البوابة مرة أخرى، ثم استدرت عائداً من نفس الطريق، متباطئاً، مصغياً بكل جوارحي لما يحدث، -كل سنة وأنت بخير يا حاجة، غداّ العيد، الحاج يعلم أني قادم إليه، وينتظرني..
-الحاج نائم، ولا أحد منّا يجرؤ على إيقاظه. -أرجوك أن تخبريه فقط بوجودي في الأسفل، إنه في انتظاري.. كان صوت الشاب كالبكاء. ضربت بطرف عيني نحو الشرفة المرتفعة، عندما اختفى صوت الزوجة، كان الرجل يهدهد طفله ويأخذه بين ذراعيه تارة، وعلى كتفيه تارة أخرى.
عبرت جوارهما عائداً للمرة الثانية، ولم يكن لينتبه لي، فقد كان جُلّ تركيزه وعينيه نحو الأعلى، نحو الشرفة. ظهرت الحاجة بعد حوالي ربع ساعة، لم يتزحزح فيها الشاب من أمام المنزل، ولم تسقط عيناه عن الارتفاع، بينما كنت أرقب الموقف من بداية الشارع. ألقت الحاجة بشيء من الأعلى، سمعت رنينه المكتوم فوق الأسفلت المترب، وهي تقول للشاب “لا تأت مرة أخرى”.
انحنى الشاب نحو الأرض، ثم أنزل طفله، وهو يشكرها دون أن تسمعه –فقد أغلقت باب الشرفة ودخلت- “كل عام وأنتم بخير، أبلغي سلامي للحاج”.
كان يمسح الأرض بعينيه وكفيه، حتى وجد النقود الفضية الملقاة من أعلى، التقطها بيده، ثم قبّل وجهها وظهرها، وانسحب من الشارع.
اقرأ ايضًا:
صبري عبد البصير عبارة يكتب: حلم بلا أسوار