” آخر رمية نَرد”.. قصة قصيرة للكاتب فكري عمر

قصة قصير للكاتب فكرى عمر

رَافَقَ الانقطاع الفجائي للكهرباء صرخة من الداخل، قفز الأصحاب الثلاثة من مقاعدهم بغرفة الضيوف، لم يملكوا وقتًا لفهم طبيعة العلاقة بين الحادثين، فما كاد صاحبهم الرابع “جَاسِرْ” يُلقى زَهْرُ النَّردِ للمرة الأخيرة محققًا الفوز الحاسم، ويقوم مزهوًا يخطو إلى مطبخه لأمرٍ ما، حتى انطفأ النور وحدثتْ الصدمة. حثَّهم الخطر على بُعد خطواتٍ منهم على الردِّ السريع الحاسم، وإلا هلَكوا معه. تطايرتْ الزجاجات على البلاط أثناء اندفاعهم باتجاه الباب، تكسرت إحداها، فأعاقت تقدُّمهم، وتميِيزهم لأصوات المتعاركين معه، ثم حاصرتهم كلماتُه المتقطعة مرةً أخرى.

“هناك شخصٌ يكتم أنفاسه بلاصقٍ، أو بكفِّ يدٍ ثقيلةٍ”، هكذا استوعبوا الأمر. شعروا أن المُهاجِم كان ينتظر اللحظةَ المناسبة لينقض عليه، أو ربما ساهم المتواطئون معه في صُنْعِها.. أبينهم دخيل، أو جاسوس؟! لا يعرفون الآن شيئًا، فالظلام عَطَّل قدرَتِهم على قراءة الخيانة في عيون بعضهم البعض.

خلال الأيامِ الأخيرة تكرر انقطاعُ التيارِ لمرة تطول لساعةٍ، أو لمرتين قصيرتين. كان الأمر مستفزًا، فأجواء الخارج حينها كانت تُملأ بضجيج احتجاجٍ لأصوات بشرٍ، وحيواناتٍ تعبر إلى جلستِهم خلال الشبابيك شبه المغلقة، تُطيِّر عبق السهرة، وتُحطِّم أجنحتهم الخرافية داخل رُؤوسهم. الجديد هذه الليلةَ هو الهجوم الذي استثمر تكرار الظلام، ولم يستعدوا له. ما من شيءٍ كهذا كان ليخطر على بالهم، فشقةُ “جاسر” عاليةً، مُؤمَّنةً بالأبواب، والشبابيك، وزحام الشوارع، وأكوام القُمامة الني تُبعد الفضوليين، حتى المقهى في الجهة المقابلة: العابرون أغلب زبائنه.
هل نَسُوا اليوم اغلاق البابِ؟! فات وقت المراجعة.

“بداية حياة” .. قصة قصيرة للكاتبة سوما الباز

اقتحم آذانهم مرةً تلو الأخرى دبيب اشتباكٍ قويٍّ بين جسدين، واصطدام بالثلاجة، والبوتاجاز، والأخشاب، والجدران. يشعرون بالنقلات السريعة، فهم يحفظون تفاصيل الشقة، طوال عامٍ مضى جمعهم المكان في سهراتٍ أسبوعيةٍ شبه منتظمة. تجمدوا وراء مدخلِ الحجرة المغلق، التصقت أجسادهم تلقائيًا، تُبعْثِرُ تماسكها الداخلي رجفةً مؤلمةً، وهم يتصورونه في معركته المصيرية بقُربهم. ارتجفت أقدامهم وقُلوبهم، تراجعوا وارتموْا على الأرض والكراسي في انتظار دورِهم، مشدودةً آذانهم تلقائيًا إلى الجانب؛ لينصتوا إلى ما يشبه المقاومة بين صاحبهم وذلك العدو، أو الأعداء الذين رافقوهم طوال الليل دون أن يشعروا بدبيب أنفاسهم.

“مَنْ يجرؤ على ذلك؟!”. أخبرهم “جاسر” من قبل أنه يَمْلِك شقته هذه منذ عشرة أعوامٍ، أغلب شقق البيت يسكنها أطباء يرحل آخر مرضاهم في العاشرة مساءً، أو محامون يُغلقون المكان بعد انقضاء العمل المسائي، وساكنٌ آخر، يأتي أحيانًا في زياراتٍ قصيرةٍ.

أرض المعركة بالداخل مطبخ مستطيل المساحة وضيقًا، زادته الأجهزة التي اشتراها مؤخرًا بالاختناق، والخطورة. أي خُطوةٍ، أو انحناءةٍ خاطئةٍ له أثناء العراك قد تُعرِّض رأسه للجروح القطعية، وعظامه للكسر. ربما كان المعتدون يخططون للهجومِ أثناء طقطقة زهرِ الطاولة، أو وهم يلتهمون طعامهم، ويشربون، ويفرشون قماشةَ الأسرارِ والأحداث الجديدة التي شاركوا بها. هكذا فهموا الآن من الصوت فقط كُلُّ شيء. صحيحٌ أنه يجيد الحركةَ بشقته في الظلام قبل النور الخفيف الذي يُفضِّلون السهر في أجوائه، ويستطيع الالتفاف بمهارةٍ، لكن قوة الانقضاض المفاجئ لم تعطه الفرصة للتفكير، ولا هم أَنفسهم استطاعوا التغلب على المباغتة. صار صوته توجعًا وأنينًا من وراء الحاجز الذي أغلقه.

أعاد الثلاثة المحاولة، استند كُلُّ منهم إلى كتفي الآخرين، لقطع المسافة الحرجة إلى هناك؛ وإنقاذ رابعهم من إصابةٍ قاتلةٍ رغم الشكوك التي نبتت في صدورهم، ثم ليعرفوا الحقيقة بعد ذلك، لكن قدمي أَحدهم لم تقدر على حمله لحظات. يسقط إِثرها متهاويًا بقلبٍ يوشك على الانفجار. كان الصوت انقطع مع الكهرباء خارج جدران البيت أيضًا، أو ربما أفسح المجال لأصوات الزجاج الذي تشظى على البلاط، وصياح صاحبهم من مسافةٍ قريبةٍ، لكنه عاد من الشارع في بضعة نداءاتٍ غامضةٍ على أطفالٍ، أو بناتٍ، ثم تَشوَّش إلى جُملٍ متداخلة عالية النبرة بعد صدمة الظلام الأولى، ربما أضاء بعضهم فلاشات الهاتف المحمول، ليبصر ما أمامه، فلا يصطدم بكلبٍ شاردٍ، أو يسقط في بالوعةٍ ذات غطاءٍ مخلوع.

“الإضاءة البديلةُ هي الحلُّ الوحيد”. كانوا يفعلون ذلك سابقًا، كيف راحت من بالهم هذه الفكرة منذ البداية؟! إنه الحادث الذي قَيَّد حركتهم، بضع خطواتٍ فقط إلى الصالة هي الشجاعةُ كُلُّها، حيث تسكن التليفونات الأربعةُ الحديثة فوق السفرة؛ لأنهم يغلقونها، ويبعدونها عنهم كل سهرة؛ كي لا تقطع سيل الضحكات، وحكايات الماضي، وسرد كل منهم لأسرارٍ جديدة في الحي، أو المدينة.

اندفعوا يسندون بعضهم بعضًا، حتى أوقفهم صوت ارتطام جسمٍ ثقيلٍ بالبلاط، وأنين مخيف. تواروْا وراء الباب مرة أخرى، وأغلقوه بالرتاج. تخيلوا جسد صاحبهم المنكوب، والأقدام الثقيلة التي تتحرك بثقة ومهارة دون أن تُشعل نورًا يدل عليها. كان الحفيف عاليًا إلى درجة أن واحدًا منهم كاد يبول على نفسه من الرعب، والآخرين ينظر كُلُّ منهما في عيون رفيقيه في ظلام لم يعكس شيئًا سوى فحيح العتاب، وقد انصتوا إلى باب الشقة وهو يُفتح، ثم صوت أقدام كثيرة تَجرُّ جسدًا على السلالم.

تحرك أحدهم باتجاه شباك الغرفة المغلقة، بيدٍ حذره فتح ضرفتي الزجاج ودعاهم للاقتراب، أبصروا من وراء الخصاص عربةً سوداء تظهر كلما سقط عليها ضوء، ورابعهم، صاحب الشقة ومنسق السهرة، يُساق مسنودًا من الجانبين، ويُدفع من قفاه دون مقاومة، ثم يُلقى في كرسيها الخلفي، يحيطُه رجلان وتنطلق بهما السيارة.

“بين الأمل والخوف” .. قصة قصيرة للكاتبة ياسمين عبدالرحمن ثابت

بخطوةٍ يائسةٍ، وبعد عشرات المرات من التراجع، مضوْا باتجاه السفرة، يحتاطون من شظايا الزجاج، تحسسوا موضع هواتفهم.. لم يجدوها في مواضعها. كان السعي للوصول إلى المطبخ مغامرة لمعرفة بعض التفاصيل، لكنهم مضطرون إليها، لإيجاد ولاعة الغاز أيضًا والرؤية، أو البحث عن كشاف. الثلاثةُ لم يكونوا يدًا واحدة.

هبط أَحدهم إلى الأرض يتحسس شيئًا، لكنه لم يعثر أيضًا على ما يريده، وبرك آخر ممسكًا رأسه بيديه، ثم زحفوا مرة أخرى إلى الحجرة. أحسوا أنهم كانوا في نظر المهاجمين من الضعة والتفاهة بحيث لم يلتفت إلى قوتهم، ولم يؤبه لردود أفعالهم، وربما كانوا الهدف القادم معًا، أو فرادى في الساعات والأيام التالية، لذا ماتت الرغبةُ لديهم بإشعال الضوء، وحينئذٍ فاجأهم النور على غير توقعٍ ولا استعداد.. اشتعل كطلقة رصاصةٍ، أو لكمةٍ في الوجه، أُبرقت العيون بالفزع، قفزوا من أماكنهم بصرخاتٍ قصيرةٍ تحت وميض المصباح. “صاحب الشقة مخطوفٌ، والسيارة قد تعود في لحظة حين ينقطع النور مرةَ ثانية، وربما كان لأصحابها يد في الأمر”.

نظروا تجاه بعضهم البعض بعيون مستريبة، وهم ينكمشون كُل إلى دخيلة نفسه، حتى فكرة الهرب لم يتفقوا عليها بعد، وقد فردوا في النور الخفيف سابقًا جميع أوراقهم، وعلى وشك خسارة مكانتهم في المدينة، ومقامهم الوظيفيُّ العالي، وربما سجنهم.. سكنوا أماكنهم غير قادرين على تحديد الخطوة التالية بعد، تَمنَّوْا معجزة وحيدة: أن يَضُمَّهُم الظلام مرةً أخرى، ولتنغلق عليهم كل الأبواب والشبابيك، ولتنطفئ كل أنوار الدنيا إلى الأبد.

فكري عمر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى