“بداية حياة” .. قصة قصيرة للكاتبة سوما الباز

الكاتبة سوما الباز

عادتْ إلى منزلها بعد ستة أشهر من قصفه، مرَّتْ عليها كدهرٍ، تصحبها مرارةُ الذكريات، نظرتْ إلى الأطلال من خلف سَحابة دموعها.

عاودتها ذكرى هذا اليوم العصيب فشعرتْ بغصَّة في قلبها ، ثم ما لبثتْ أنْ عادت لها الابتسامة التي هجرتها منذ أشهر، وهي ترى طيفَ أحبابها؛ فهنا في هذا المكان أمام المنزل كان يلهو طفلُها صاحب السبع سنوات مع أخويه، و تسابقوا جميعًا لاحتضانها لحظة خروجها من المنزل، و كلٌّ منهم يشعر أنه المفضل لديها والأكثر تدلُّلًا .

أوصتهم بالهدوء لحين عودتها من عند جدتهم للاطمئنان عليها، و تحضير طعام الغداء لها .

كانت تفعل ذلك كل يوم، مع إصرار الجدة على عدم ترك منزلها و الاتنقال للعيش معهم، معلِّلة بأنها ما زالت تحيا مع ذكريات زوجها الراحل و تفاصيل حياتهم الطويلة معًا.

احتضنتها الأم بحب و هي تسألها عن الزوج و الأحفاد، و لماذا لم يأتِ معها أحدُهم اليوم كعادتهم دائمًا؟ فتخبرها بالتهاء الصغار في اللعب بفناء المنزل و حصول الزوج على قسط من الراحة، بعد يوم من العمل الشاق.

و أثناء ذلك؛ رَجَّ المكانَ صوتُ دوي لقصف في الجوار، نظرت “حياة ” بذعر لأمها و أنطلقت تجري لا تحملها قدماها نحو منزلها، وقفت تنظر بحسرة و ذهول غير مصدقة و هي تري ألسنة اللهب و الدخان تتصاعد من داخل وخارج المنزل، الذي تحول في لمح البصر إلى كومة من الرَّماد.

صرخت “حياة ” صرخة مدوية، ضاع صداها مع صوت القصف القريب، قبل أن تسقط مغشيًا عليها.

أفاقت من غيبوبتها التي استمرت ثلاثة أيام كاملة، لتجد أمها بجوارها، في إحدى المشافي المتهالكة في مدينتها غزة، تحمل مصحفها و تبتهل إلى الله بالدعاء من أجلها .

لم تتبين في البداية أين هي أو ماذا حدث، أخذت تنادي على أبنائها و زوجها بصوت واهن، و هي تنظر بعدم فهم لدموع أمها المنهمرة بغزارة، و تسترجع أخر مشهد رأته قبل أن تفقد وعيها فتعاود الصراخ المدوي في كل الاركان، لم يوقفه إلا حقنة مهدئة لتخلد إلى نوم عميق.

و في الصباح التالي تحتضنها الأم و هي تذكرها بفضل الشهداء و مكانتهم و تدعوا لها بالصبر و الجلد. و يدخل الطبيب المعالج ليطمئن عليها قبل الرحيل ليفاجئها بحملها في بداية شهرها الثاني، و حاجتها إلى رعاية وراحة كاملة، لم تتمالك حياة نفسها، و انهمرت دموعها بغزارة و هي تحتضن أمها التي نظرت إلي السماء بامتنان وهي تحمد الله وتشكره على جميل عطاياه .

مرت الأيام و الشهور ثقيلة إلى أن شعرت اليوم برغبة قوية في زيارة منزلها المتهالك، فتجلس طويلًا على أطلاله، و تحيا مع ذكرياتها، إلى أن انتبهت إلى صوت قصف قريب .

تنبه رجال الإنقاذ في المكان على صوت صراخ، و عند الاقتراب و تسليط ضوء المصابيح، تبين أنه لجنين حديث الولادة، مازال مرتبطًا بحبله السُّري بأمه، التي فارقت الحياة منذ وقت قريب، قدره الطبيب بساعة مضتْ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى