قدم لنا الأدب الإيطالي قصة رمزية مرتبطة بصلاح الدين الأيوبي،وهي“الخواتم الثلاثة“حررها يوكاشيو في صورة بالغة الروعة، وقد شغلت هذه الحكاية الفكر الأوروبي زمنا، كوصية للأجيال المعاصرة والقادمة أيضا، بعد الصراع الديني بين الأديان السماوية، وجاءت تحت عنوان “اليهودي” ملكي صادق، تخلص بها من مأزق حرج أوقعه فيه السلطان.
استدعى صلاح الدين اليهودي وأكرمه ثم سأله:
يا صديقي العزيز، أكد لي كثيرون من معارفي أنك حكيم، وأود أن تبين لي: أي دين من الأديان الثلاثة: الإسلام أو المسيحية أو اليهودية هو الدين الحق؟
فقال اليهودي:
كان يعيش في الشرق رجلٌ يَمتلِك خاتمًا لا تقدر قيمته بمالٍ، أهدته له يدُ حبيبٍ عزيزٍ وغالٍ. وكان يشعُّ منه ما يزيد على المائة من الألوان، وكانت له خاصية خفية تجعل كل من يَحمله محبوبًا ومرضيًّا عنه من الله والناس.
لا عجب إذن في أن الرجل الشرقي كان حريصًا عليه على الدوام، ولم يخلعه من إصبعه أبدًا ، ولا عجب أيضًا في أن يُدبِّر كل ما يستطيع للاحتفاظ به في بيته وأسرته إلى أبد الآبدين!
وهكذا قرَّر أن يَترك الخاتم لأحبِّ أبنائه إلى قلبه، كما استقرَّ رأيه أيضًا على أن يُورِّث هذا الابن بدوره الخاتم لأحب أبنائه وأعزِّهم على نفسه، بشرط أن يبقى أحب الأبناء باستمرار، وبصرف النظر عن أصله ومولده، وبالقُدرة الكامنة في الخاتم وحدها أن يبقى هو أمير البيت والرأس المدبِّر للعائلة.
هكذا وصل هذا الخاتم، في مسيرته من ابنٍ إلى ابن، إلى يد أب له ثلاثة أبناء. كان الأبناء الثلاثة متساوين في طاعتهم له، ولم يكن في مقدروه أن يحرم أحدًا منهم من حبِّه وحنانه.
هداه عقله أن يَستدعي في السرِّ صانعًا اشتهر بتفوُّقه في صنعته، وطلب منه أن يصنع نسختين من الخاتم بحيث لا يدخر جهدًا ولا مالًا في أن يجعلهما مطابقتين تمام التطابق مع الخاتم الأصلي. نجح الصائغ الفنان في مهمته، وعندما حضر إليه ومعه الخواتم الثلاثة، تعذَّر على الأب نفسه أن يُميِّز الخاتم الأصليَّ من النسختَين. وسعد الأب سعادةً كبيرة، ونادى في صوت مفعَم بالفرح ليلقاه كلٌّ منهم على انفرادٍ، وفي هذا اللقاء باركهم واحدًا واحدًا، وأعطى كلًّا منهم خاتمه، ثم مات …
لم يكد الأب يموت ويواري التراب حتى رجع كل واحدٍ من الأبناء ومعه خاتمه، وكل واحد منهم مُصممٌ على أن يكون هو أمير البيت ورأسه المُدبِّر. طال البحث، وشبَّ النزاع والشجار، وارتفعَت الأصوات بالشكوى والاتهام. فقد استعصى عليهم أن يتبيَّنوا الخاتم الأصلي … تمامًا كما يستعصي علينا اليوم أن نتبيَّن أي الديانات الثلاث هو الأصح.
قال القاضي: سمعتُ أن الخاتم الصحيح يَمتلك الطاقة العجيبة في أن يجعل صاحبه محبوبًا ومرضيًّا عنه من الله والناس. هذا الخاتم هو الذي يُمكنُه أن يحسم الأمر! لأن الخواتم الزائفة لا تستطيع بطبيعة الحال أن تُحدث هذا الأثر!
والآن، من هو الابن الذي يحبه اثنان منكم أعظم الحب؟ هيا! تكلَّما! إنكم تلوذون بالصمت، فهل يتراجَع تأثير الخواتم وينقطع تأثيرها على الخارج؟ وهل أفهم من هذا أن كل واحدٍ منكم لا يحبُّ إلا نفسه أعظم الحب؟ آه! إذا صحَّ هذا كنتم جميعًا خادعين ومخدوعين! وكانت خواتمكم الثلاثة غير أصيلةٍ. ربما كان الخاتم الأصلي قد ضاع، وربما كان هذا هو السبب في أن يُحاول الأب إخفاء الخسارة، أو التعويض عنها، وهو الذي جعله يَصنع الخواتم الثلاثة بحيث يستحيل تمييز أحدها عن الآخر.
إن شئتم أن تسمعوا نصيحتي، بدلًا من أن تَسمعوا حكمي، نصيحتي: ليأخذ كلٌّ منكم الأمر على ما هو عليه. وإذا كان كل واحد منكم قد أخذ الخاتم من أبيه، فليَعتقِد كل واحدٍ منكم أن خاتمه هو الخاتم الأصلي، لعلَّ الأب لم يشأ أن يصبر على استبداد خاتم واحد بالأمور كلها في بيته! بيد أن الشيء الذي لا شك فيه هو أنه أحبكم أجمعين، وأنه لم يُفرِّق في حبِّه بينكم؛ إذ لم يُطاوعه قلبه أن يُميِّز واحدًا منكم أو يؤثره على أخوَيه الباقيين.
فليسرع كل منكم ويسعى بكل جهدِه لاقتفاء أثر حبِّه الحر المنزَّه عن التحيز! ليراهن كلٌّ منكم على أن يُظهر للعلن تلك الطاقة العجيبة الكامنة في طوايا خاتمه! وليعمل من جانبه على أن يشحذ هذه الطاقة بكل ما أوتي من دماثة، وتسامح، وإحسان، وخشوع خالص لله! وعندما تظهر قوة هذه الخواتم وطاقتها العجيبة عند أحفاد أحفاد أحفادكم، فسوف أدعوهم مرة أخرى بعد الآلاف المؤلَّفة من السنين لكي يَمثلوا أمام هذا الكرسي نفسه. ويومئذ سيجلس على هذا الكرسي مَن هو أحكم منِّي بكثير، وسوف يقول أيضًا كما أقول لكم الآن: انصرفوا.