الشاعر محمد الشربيني يكتب: رسالةٌ أخيرةٌ مِنْ هناك!

أيًُكمْ يختلي بنفسه-مثلما أفعل ولا أجد غضاضةً في البوح بذلك – ثم يُطلِق خيولَ روحه من عِقال الزمان والمكان،فلعلها تسعد بلقاء طيف حبيبٍ رحل؛تستريح عيناه برؤياه، أو تهدأ شجون أذنيه باستقبال نبرات صوته؟!! أيُّكم الآن لا يتشوَّق أن يستقبل طيف أمه وأبيه وقد غادرا على غير موعدٍ؟!!،غادرا دونما نتهيأ لهذه المغادرة بكثيرٍ من البقاء جوارهما، وتَمْليَة العيون كثيراً.

كثيراً من قسمات وجهيهما،والاستزادة من صوتيهما بالسكوت السكوت عندما يتكلمان…آه لو كنا نعلم وحشةَ الطريق بدونهما،آه لو كنا نعلم قسوة الأيام حال صراعاتنا وإياها دونما دروع دعواتهما الواقية.. حقاً.

ما اأصعب أن تدخل حرباً عاريَ الصدر..أعزل اليدين!!
وكثيرا ما أستريح من لهاث الركض في الحياة بالقعود أمامهما-فالقبران متجاوران- أحادثهما بكل ما ألقى وفي يقيني أنهما سيرسلان رسالة من هناك..لعلها تأتي في صورة رؤيا طيبة الوقْع،أو أمرٍ يأتي على غير توقُّعٍ أستبشر به وسط ما نحياه من أحداثٍ مُحبِطات..!!

إن حب الراحلين لمَن رحلوا عنهم من أهليهم لاشك فيه،لكن المدهش أن تحمل لنا سورة “يس”أمراً يفوق كلَّ خيال؛إذ أوردت قصة أصحاب القرية “أنطاكية”التي واجهت رسل نبي الله”عيسى ابن مريم” الثلاثة بكل وعناد،وأعلنوا تطيُّرهم وتشاؤمهم من وجود الرسل..ثم تذكر الآيات الكريمة قصة الرجل -وكان يسمى”حبيبا”-الذي سارع في الإيمان بدعوة الرسل والنصح لقومه:(وَجَاءَ مِنْ أقصى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20) اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) .

فماذا كانت نهايته… قتلوه شرَّ قتلةٍ؛اختلف المفسرون في كيفيتها؛قيل رجماً بالحجارة، وقيل دهساً بالأقدام،الشاهد أنه رغم ما ارتكبه قومه في حقه من جريمة القتل ثم دخوله الجنة إذا به يحمل همَّ قاتليه راغبا في هدايتهم(إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)) أجل… هو الآن ينعم بما ادخر الله له من كرامة،تليق بمقام المؤمنين المخلصين الصابرين؛لكنه وسط النعيم المقيم يتمنى أن يعلم قومه بما غفر له ربه، وجعله من عباده المكرمين؛ لقد حمل همَّ قاتليه حيًّا وميتا،وبذل النصح لقاتليه حيًّا وميتاً !!!

ولعل الطرافةَ في منطلَق قصيدة”رسالة من تحت التراب” للشاعر الكبير “نزار قباني” أنها تبدأ افتراضاً من العالم الآخر إذْ كتبها بنظرة سوداويةٍ تفترض استمرار العرب في تخبُّطهم، ولعل الغموضَ الذي يحيط أيضاً بقصيدة(رسالة من تحت التراب) ما يُغْري بالإبحار على فُلْكِ مفرداتها والتزوُّد من موائد أخيلتها؛ تبدأ القصيدة من عالم غير منظور لم يره الشاعر قبل، وعلى افتراض واقع لن يراه الشاعر ؛ ومع ذلك لايستوقف الشاعرُ اندفاق الفصيدة:

(من عالمي الجميل..أريد أن أقول للعربْ/..الموتُ خلف بابكمُ..!!/الموت في أحضانكمْ..!!الموتُ يوغل في دمائكم..!!/وأنتمُ تتفرجون.. وترقصون وتلعبون..وتعبدون أبا لهبٍْ!!/والقدس يحرقها الغزاةْ/..وأنتمُ تتفرجون ..وفي أحسن الأحوال تُلقون الخطبٍْ!!/لا تُقْلِقوا مَوْتِي بآلاف الخطبْ!! /أمضيتُ عُمْري أستثيرُ سيوفَكمْ..واخجلتاهْ..!!/سيوفُكم صارت من خشبْ!!…)

يقال إن”نزار قباني” كتبها قُبيْل وفاته، وأوصى ألَّا تُنشر إلا بعد رحيله على أن تُؤرَّخَ بالعام الذي تُوفِّيَ فيه، وبُعَيْدَ حدوث الوفاة بفترةٍ وجيزةٍ ظهرت القصيدة، فنحن إزاء قصيدةٍ لم ينشرها في حياته …!! إننا أمام نصٍّ لم نسمعه قَطّ من فَمِ قائله فهل يملك الباحثون من الأدوات ما يجعلهم قادرين على إثبات أو تفنيد تلك الدعوى؟!! أجل.. إنني -رغم تحفُّظي على ما في إيقاع القصيدة العروضي من هنات لم نعهده قبْلُ في شعر”نزار قباني”- أراها تنتمي إلى روح “نزار قباني”المتمردة الصدامية مع ما يتعارض وقناعاته السياسية، والقدرة على جَلْدِ ظهور مناوئيه بسياط معجمه اللاذع وسخريته الفاضحةِ مواقفَ المطنطنين بأناشيد القتال من خلف برامج التلفاز لإراحة ضمائرهم!! إن”نزار قباني”يتحدث بلسان كل قُطْرٍ عربيٍّ تكالبَ عليه الأعداء.

وتجاهلَ نصرتَه الرفاقُ،أو ألقوه في غيابة الجبِّ دونما شعورٍ بوخْزة ضميرٍ، وما حدث بأرض العراق أو سوريا ليس بخفيٍّ…!!إن التعويل على الرأي العام العالمي لإيقاف مجازر التطهير العرقي في”غزة” أو الاعتداءات اليومية على التراب اللبناني.

أقول..إن التعويل على الرأي العالمي والمظاهرات الشعبية في الدول الغربية حماقةٌ،لأن الأقنعة سقطتْ عن دعاة حقوق الإنسان، والعرب بما يملكون من ثروات قادرون على فرْض إرادتهم، وإجبارِ الجميع على القيام بمسئولياتهم تجاه حماية الشعب الفلسطيني؛ليأتي الختام النزاريُّ متبرئاً من عروبته في مماته كما كان في حياته،فاقداً الأمل في حُسْنِ إدارة العرب أوراق القوة التي يملكونها، وقدرتهم على كبْح الأعداء المتعطشين إلى الدماء..!!فإلى ختام(رسالة من تحت التراب) والشاعر الكبير “نزار قباني”إذْ ختمها بإمضائه هكذا”نزار قباني” من العالم الآخر 17/12/1998 الساعة الثانية فجرا:

(…ماذا أقول إذا سُئلتُ هناك عن نَسَبي؟!!..ماذا أقول؟!!سأقول للتاريخ..أمِّي لم تكن من نَسْلكم!!/وأنا ..ما عدتُ أفخر بالنسبِْ!!/لا ليس لي من إخوةٍ..فأنا برئْ!!/ فأنا برئٌ منكمُ وأنا الذي أعلنتُ من قلب الدماءْ/ولسوف أعلن مرةً أخرى هنا موتَ العربْ.!!).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى