الشاعر محمد الشربيني يكتب: نفوسٌ عاريةٌ

ودائماً ما أقول لمَنْ حولي: إنَّ إنساناً خَلتْ أخلاقه من الحياء لَهُوَ يمشي وسط الناس عارياً وَقِحاً.. وإنْ ارتدى أفخمَ الأردية وأغلاها!! ويدهشني حال التدبُّر في قوله تعالى واصفاً حال أبينا”آدم”وأُمِّنا”حوَّاء”-لهما منا المحبةُ والسلامُ-عندما أكلا من الشجرة،تقول سورة “الأعراف”: ( ۚفَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) أي انكشفت عوراتهما، ورغم أنهما لم يمرا بمرحلة الطفولة إذ خُلقا كبيرين سويين، ولم يتلقيا تهذيبا أُسريًّا إلا أنهما بوغتا بمشهدٍ لم يعهداه!!تقول الآية الكريمة:( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) وما كان ذلك مصدره إلا الحياء النفسي الذي خلقه الله في النفوس كلها كالحياء من كشف العورة، والجماع بين الناس.

ولم تكن الحكمة العربية غافلةً عن قيمة الحياء في حياة الإنسان؛حيث جاء فيما رواه العرب في شأن الحياء:
“من كساه الحياءُ ثوبَه لم ير الناس عيبَه”،وإني لأدهش من حياء ذلك الشاعر الجاهلي “عنترة بن شداد” حين يقول :(أرى مغانمَ لو أشاء حويتُها/ فيصدُّني عنها كثيرُ تحشّمي) رغم ما لكلمة المغانم في حياة الجاهليين من رنين يستلب الآذان، وتخرج لأجله الأسياف من أغمادها إلا أن تحشُّم الشاعر وحياءه يمنعانه من الالتفات إليها.

وتتسع عينُ الدهشة حينما نقرأ له(وأغضُّ طرْفي إن بدت لي جارتي/حتى يواري جارتي مأواها)أيُّ رجلٍ هذا الذي لا يرسل عينه في أثَر امرأةٍ باديةِ الحسن!!،إن ذلك ما عناه “ابن حجر”حينما قال: (الحَياء خُلُقٌ يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ)،ولعل ذلك يفسر ما حدث من”أبي سفيان”-وكان على غير الإسلام-عندما استقبله “هرقل”امبراطور الروم مع بعض القرشيين، فلما دخل عليه”أبو سفيان” سأله”هرقل” عن هذا الرجل الذي بُعث فيهم-يقصد سيدنا محمد بن عبد الله-وعما يدعو إليه،فأجلسه أمامه وخلفه جلس رفاقه القرشيون.

وقال “هرقل” للقرشيين: إني سائل هذا الرجل ـ يعني أبا سفيان ـ ، فإن كَذَبَني فكذِّبوه، فقال أبو سفيان : لولا الحياء أن يروا عليَّ كَذِباً لكذبتُ،وأخذ”هرقل”يسأله عن صفات النبي ونسبه وأصحابه و”أبو سفيان”لا يقول إلا صدقاً حياءً من الوقوع في نقيصة الكذب..!!أجل دفع الحياءُ “أبا سفيان” إلى الصدق رغم عدائه في حينها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشاعر محمد الشربيني يكتب: رسالةٌ أخيرةٌ مِنْ هناك!

لقد أبدع الشاعر العربي”حبيب بن أوس”الطائي الشهير بـ”أبي تمام”إذ جعل الحياء للمرء يماثل لحاء الشجرة وقشرتها الخارجية الحامية أغصانها من التلف والعطب بهذا التشبيه الضمني الرائع في قوله:(يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ/وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ)إنها الفطرة التي تأبى الوقاحة،وتجعل الحياة فاقدةً كل معاني الخير إذا غادرها الحياء(فَلا وَاللَهِ ما في العَيشِ خَيرٌ/ وَلا الدُنيا إِذا ذَهَبَ الحَياءُ)ليختم”أبو تمام”قصيدته بهذا التهديد المستتر من سوء المآل(إِذا لَم تَخشَ عاقِبَةَ اللَيالي/ وَلَم تَستَحيِ فَافعَلْ ما تَشاءُ)..

كما أن للشاعر”علي الجارم”وهو من أعلام مدرسة المحافظين الشعرية التي قاد تيارها “البارودي”ثم”أحمد شوقي”، والذي يرى النقاد أنه من أبرع كتَّاب النثر والشعر.. أجل لقد درسنا له في مراحل التعليم قصة”غادة رشيد” المرتبطة بكفاح الشعب المصري للحملة الفرنسية و”نابليون بونابرت” وقصة”فارس بني حمدان”… أقول إن للشاعر “علي الجارم” قصيدةً رائعةً كانت مقررةً في المناهج الدراسية قبلما يفقد واضعو المناهج البوصلة، كان اسمها”يا بنتي”يقول مطلعها: (يابْنَتِي إِنْ أردْتِ آيةَ حُسْن/ وجَمالاً يَزِينُ جِسْماً وعَقْلاَ) (فانْبِذِي عادةَ التَّبرجِ نَبْذا/ فجمالُ النُّفوسِ أسْمَى وأعْلَى)(يَصْنَع الصّانِعُون وَرْدا ولَكِن/وَرْدَةُ الرَّوضِ لا تُضَارَعُ شَكْلا).

لقد جاءت”يابنتي”مُفْتتَح الشاعر لاستثارة عاطفة البنوة وتذكير كلُّ فتاةٍ بما لها من الحب في قلب أبيها والحرص على سعادتها ووجوب اتباع النصيحة الخالصة المبذولة من أقرب الناس إليها؛إذْ يريد أن يتوِّجها بآية الحسن وتاج الجمال المتمثِّل في الالتزام بالعفاف ونبْذ التبرُّج والذي عناه بلفظة “عادة”بما لها من دلالاتٍ سيئةٍ لا تتوافق والقيم السامية..

إن الجمال الطبيعي لوردة الروض يفوق كل جمال الورد الصناعيِّ وإن تفنَّن صانعوه ..!! ويظل شاعرنا طيلة القصيدة يصف ما يجب أن تتحلَّى به الفتاة من زينة الأخلاق الحميدة التي تسمو بها… فما أحوج أجيالَنا إلى مِثْل هذي النصوص التربوية في مناهجم الدراسية أو في وسائل الإعلام حتى لا يصبحوا فرائس سهلة الوقوع في شِباكِ موجات الانحلال الأخلاقي الموجَّهة في وسائل التواصل الاجتماعي وفيديوهات الباحثين والباحثات عن الشهرة الزائفة في اليوتيوب… إنها الطامة الكبرى التي لا تقل خطراً عن الغزو الفكريِّ الوارد من الغرب ليضرب الأمةَ في ثوابتها… ليأتي الختام مُتْرعاً بكل ما يزين الفتاة:

(واجعَلِي شِيمة َ الْحَيَاءِ خِمارا/ فَهْوَ بِالْغَادة الكَريمة ِ أَوْلَى)(ليس لِلْبِنْت في السَّعادة حَظٌّ/إِن تَنَاءَى الحياءُ عَنْها ووَلَّى)(والْبَسِي مِنْ عَفَاف نَفْسِكِ ثوْبا/ كلُّ ثوبٍ سِوَاه يَفْنَى ويَبْلَى).

اقرأ ايضا:

“الناس الحلوة”.. قصيدة للشاعرة إيمان مصطفى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى