الشاعر محمد الشربيني يكتب: الصراخُ في أوديةِ الفراغ

لم يكن العربيُّ قديمًا-شاعراً كان أم غير ذلك-يهتمُّ أين ستقع كلماتِه،أو يعنيه حينما يقول كلمتَه مَنْ يحفظُ عنه ماقال،ويجعلها من مأثوراته؛بل كان العربي يقول قَوُلَتَه في أيَّةِ أرضٍ وتحت أيَّةِ سماءٍ،ولا يعنيه بعد ذلك مَنْ يتلقَّفُها، ويتولَّى ترديدَها، ولعل ذلك ما عَنَاه شاعرُ العربِ الأكبرُ”أبو الطيِّبِ المتنبِّي”ببيتِيه الشعريِّين الشهيرين:(وَما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي/إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً)(فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا/وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا)إنها الثقةُ المطلقةُ في ضمان الخلود لكلِّ ما يقولُ-أيَّاً كان ماقال،وفي وجَه مَنْ-لكنه يقولُ ما يراه،ولا يعنيه أن يسجِّلَ أحدٌ أقواله؛فالشاعرُ العربيُّ قديمًا،هو ورفاقُه الشعراءُكانوا حقيقيين، يدركون أن دورَهم القولُ، وستسيرُ بأقوالُهم الركبانُ، ويتناقلُها الرواةُ عَبْر الأزمان!!

ولو أدرْنا عيْن التأمُّل في بيتيِّ”المتنبيِّ لوجدنا ذلك الإحساس المتعاظم بقيمةِ ما يقول؛فما يقوله قلائدُ يزهو بها الدهرُ،يزيِّنُ بها عنقَه، ويفخر بإنشادها لسانُه، ويصل بـ”المتنبي”التعاظُم إلى قمَّةٍ لم يحتلها غيرُه؛حين يرى الدهرَ أحدَ رواةِ قلائدِه، وحين يرى شعرَه صانعاً المعجزاتِ؛إذْ يشمِّر للسير به مَنْ لا يسير،ويتغنَّى به مَنْ لم يجد في نفسه طاقةً للتغريد..!! هكذا كان العربيُّ قديمًا يقول ما يراه كيفما يرى،واثقاً أنَّ أقوالَه ستردِّدُها بطول الجزيرة العربية وعرضها الأفواه، وتحفظُها على مدار الزمان العقولُ والأفهامُ.. لماذا؟!! هنا مَرْبطُ الفرسِ..!!وموضعُ التدبُّر..!! لأنهم حقيقيون يعنون ما يقولون،ويفعلون ما يقولون، ويدفعون ثمنَ ما يقولون ولو كان الثمنُ أعناقَهم؛لذلك ضمنوا الخلود لأقوالِهم فلا يعنيهم أنَّ مَن سمعها منهم أول ما قالوها آحادُ الناس أم الأمةُ بأسْرها..

لقد روت بعض مصادر العرب أن حرب”داحس والغبراء” التي دارت رحاها بين قبيلتي”عبس و ذبيان”قرابة أربعين سنة،كادت ألا تقع لولا قصيدة قيلت،فبعد انتهاء السباق،ورفض”قيس بن زهير”أمير”عبس” الاعتراف بنتيجة السباق وقَتْله”ندبة بن حذيفة”أمير “ذبيان”لتطاوله عليه،احتدَّ الخلاف بين زعماء القبيلتين وبلغَ أوجَه،لكنه هدأ قليلًا بعد تدخُّل بعض المُصلحين الذين أقنعوا”حذيفة بن بدر”بقبول الديِّة حقنًا للدماء ، إلا أنّ “حذيفة بن بدر” بدَّل رأيه واندلعت الحرب بعد أن سمع زوجته”أم ندبة”تنشد(حذيفةُ لا سلمْتَ من العداةِ/ولا وُقّيتَ شرّ النائباتِ)(أَيَقتلُ “ندبةً””قيسٌ”وترضى/بأنعامٍ و نوقٍ سارحاتِ)أجلْ…كان العربي يقول ويوقن أنه سيُلزِم القبيلة بقراره،وهكذا كان العرب يرون في أقوالهم ميثاق شرفٍ يجب أن يحفظوه من كل انتقاصٍ أو استهزاء ولو كلّفهم حياتَهم.. لذلك ضمنوا الخلود لأقوالِهم.

ويحمل لنا العصرُ الحديثُ وسائله المستحدَثَة ووسائط تواصله الفريدة التي تضمن لما يقال الحفظَ من الضياع، والترديد دونما انقطاعٍ حينما نرى أن هناك حساباتٍ على وسائل التواصل الاجتماعي يصل متابعوها إلى مايتجاوز عشرات الملايين،إنها أرقامٌ مخيفةٌ ما كان ليصدِّقُها العقل العربي قديمًا،واعتبرها ضرْباً من الجنون أن يقول إنسانٌ ما قولاً ما فتتفاعل معه الملايين، ولعلِّي ومعي كثيرون يجلسون على أرصفة الدهشة أو لا يجلسون،لكن الخبر الذي لا لبْس فيه أن مقابلة “باسم يوسف”و”بيرس مورغان” تصدَّرت الترند العالمي إثْر الأحداث الحاصلة في فلسطين، حيث سجّلتْ أكبر عدد مشاهدات على يوتيوب في تاريخ “برنامج مورغان” بـ 18 مليون مشاهدة خلال 6 أيام فقط. ، ليعزم الرجلان على اللقاء وجْهاً لوجهٍ مرةً أخرى ، كذلك تخطَّى فيديو كابتن “محمد صلاح” نجم فريق ليفربول حاجز الـ 50 مليون مشاهدة على مواقع التواصل خلال ساعةٍ فقط، ، حيث قال:”ليس من السهل أبدًا الإدلاء بتصريحات في مثل هذه الأوقات العصيبة، شهدنا في الأيام السابقة عنفاً شديداً ووحشيةً غاشمةً تدمي القلوب، لا يمكن تحمُّل وتيرة العنف المتصاعدة منذُ أسابيع، جميع الأرواح مقدَّسةٌ ويجب توفير سبل الحماية لها”..

إذن نحن أمام واقعٍ جديدٍ يبين لنا قيمة مواقع التواصل الاجتماعي وخطورة تأثيرها وهذا ما نجهله ؛ إذ أن معظم صانعي المحتوى الرقمي العرب جعلوه وسيلة تربُّح لا أداة مناصرةٍ لقضايا العرب ؛ بل إن الأرقام الواردة أعلاه تفوق خيال أي أديب عربي يحلم بالانتشار..!! إننا أمام قوةٍ هائلة التأثير استطاعت قَلْبَ الرأي الشعبي العالمي ليخرج في مظاهرات عارمةٍ يهاجم سياسات حكوماتهم من مذابح إسرائيل..!

دَعْنا من ذلك العدد الذي يذهب بنا حدَّ الذهول؛ليطفو على الذهن سؤالٌ عاجلٌ:هل ضمنتْ الأرقام المليونية تغييراً لما تفاعلتْ من أجله؟!!أو بوضوحٍ أكثر..هل استطاعت هذه المظاهرات العالمية قَلْبَ المعادلة وأوقفتْ آلة القتل والاستئصال بلا هوادةٍ في” فلسطين”وفي”لبنان”؟!! الإجابة واضحة للعيان؛فأعداد الشهداء قاربَ الخمسين ألفاً،والمصابون تجاوزوا مائة وخمسين ألفا.. ونحن نتباهى الزخم الذي تُحدثه وسائل التواصل الاجتماعي ونتناسى أن تغيير ذلك التردِّي بأيدينا نحن فقط ليأتي الختام من”نزار قباني” قاسياً:

(أخبارنا جيدة… وحالنا-والحمد لله- على أحسن ما يكونْ
جمْرُ النراجيلِ على أحسن ما يكونْ
وطاولاتُ الزهر..ما زالت على أحسن ما يكونْ
والقمرُ المزروعُ في سمائنا
مدوَّرُ الوجه على أحسن ما يكونْ!!
وصوتُ فيروزَ من الفردوس يأتي:”نحن راجعونْ”
تغلغل اليهودُ في ثيابنا و” نحن راجعونْ”
صاروا على مِتْريْن من أبوابنا و”نحن راجعونْ”!!/
ناموا على فراشنا ..”ونحن راجعونْ”!!/وكل ما نملك أن نقوله:
“إنَّا إلى الله راجعونْ” …!!)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى