عندما كنا نمزح في قديم الأزل، بأن فلاناً كاد يبيع ملابسة من أجل تسديد ديونه كنا فعلاً نمزح ، ونحن غير مصدقين وغير متصورين أن أحدًا يمكن أن يبيع ملابسه من أجل أن يشتري لأبنائه طعام الغذاء أو العشاء، وكنا على سبيل المزاح أيضاً نقول أن فلاناً قد ترك بيته لينام على الرصيف، لأن الدائنين يحاصرون البيت وربما أجهزة الأمن كذلك.
الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم في روايته الشهيرة الأيدي الناعمة التي تحولت فيما بعد إلى فيلم عربي طويل ، شاهدنا أحد العاطلين بالوراثة وهو يهرب من “سلم الخدامين” مع صديقه الدكتور “حتى” هرباً من الدائنين الذين ناموا على الباب الرئيسي للقصر الذي كان يقطنه سمو الأمير.
لم أكن أتصور أنه لا خيال توفيق الحكيم، ولا ألسنة الشعب البسيط، يمكنها أن تتحول إلى حقيقة، إلى واقع يعيشة الشعب المصري.
مؤخرًا على أكثر من موقع إجتماعي شاهدت إعلانات من بعض المواطنين وهم يعرضون أحذيتهم وملابسهم المستعملة للبيع.
في البداية توقعت أن ذلك مجرد “هاكر” أو “فيروس” مخترق هاتفي النقال، وفي النهاية أكتشفت أن هذا الإعلان صحيح ومدفوعة قيمته وصاحبه يحتاج لمبلغ من المال كي يجري عملية جراحية لوالدته المسنة، وأخر كان يحتاج مع دخول العام الدراسي الجديد لمبلغ زهيد من المال كي ينفق على ضربه البداية لأن لديه أربعة من الأبناء سوف يلتحقون بالتعليم الحكومي طبعًا.
لم أتخيل ولم يتخيل أديبنا العملاق توفيق الحكيم أن المزاح سوف يتحول إلى “جد الجد” في يوم من الأيام، وأن الخيال الأدبي رغم أنه لأديبينا الكبير كان مشهدًا من واقع الحال مع بدايات ثورة 1952م المصرية، هو ذاته يمكن أن يتحول إلى واقع مؤلم رغم أنه لا توجد لدينا ثورة ولا انتفاضة، ولا يحزنون.
كنا نسمع أثناء حرب الاستنزاف مع اسرائيل منذ العام 1967م حتى العام 1973م أننا يجب أن نشد الحزام على البطون، وأنه ينبغي علينا الابتعاد عن كل أشكال الترف في الإنفاق قائداً وحكومة وشعبًا، وكان الرئيس جمال رحمة الله عليه مثالاً لشد الحزام، وقدوة في عدم التخلي عن الانفاق الضروري لمعاشة وطريقة حياته هو وأسرته الكريمة.
كذلك كانت حكومته “الرشيدة” لا تمتلك سيارات مستوردة فارهة، حيث كانت سياراتها صناعة وطنية من شركة النصر لتصنيع السيارات، من طراز نصر 2300، “لأجدع” وزير ، وأهم رئيس وزراء.
اليوم ونحن لسنا في حالة حرب، لكننا نعيش اتفاقية سلام منذ العام 1979م، واليوم ونحن ننأى بأنفسنا عن أي صراع في المنطقة على قاعدة “وأنا مالي يا عم” و “اللي يعوزه بيتك يحرم على الجامع أي المسجد” .
نجد أن شعبنا كان الله في عونه يعرض “أغراضه ومستلزماته وملابسة الشخصية للبيع”، ونجد الشعب كله تقريباً باستثناء الـ “نص” بالمائة إياها التي تعيش في التجمع والشيخ زائد والرحاب وما بينهم وهي تنفق ببزخ لم يسبق له مثيل، تعيش وتمتلك في الساحل الشمالي الشرير ما تفوق قيمة مئات الملايين من الجنيهات ، هو بالتحديد ما يجعلني أصدق اعلان “السوشيال ميديا” وأستبعد تماماً فكرة “الهكرز” المغرض والمحترفون والاشرار، وأصحاب “الترندات” الميمونة.
الاعلان صحيح يا جماعة الخير، حيث لا العدالة الاجتماعية الموعودة حققتها ثورة يناير المنشودة، ولا شعار ” عيش – حرية ” وما إلى ذلك قد تحول إلى برنامج عمل للثوار.
لا الحكومات المصرية المتعاقبة إنتبهت أنها بضغها على الطبقة المتوسطة صاحب السمعة في صناعة الحضارة العريقة على مر الزمان سوف تنفجر جوعاً، وتموت عطشاً وعوزاً ورجوعاً إلى الوراء”.
لم يتخيل أحد من الذين ذهبوا إلى “ميدان التحرير ” ليسقطوا رئيساً بعد الآخر، أن الوضع الاقتصادي يمكن أن يتردى بالشكل الذي أصبح عليه بعد ذلك.
“سحابة صيف”.. قصيدة جديدة للشاعر أسامة مهران
ولم يتوقع أكثر الاقتصاديين المسيسين تشاؤمًا أن الدولار الأمريكي يمكنه أن يقفز من ستة جنيهات إلى 50 جنيها في أقل من عشر سنوات، والبقية تأتي.
الإعلان صحيح يا جماعة الخير، والوضع المزري يا أصحاب الشعارات الفضفاضة ، ما زال يعبر عن نفسه بقوة، فليس لكل مجتهد نصيب مثلما يقال، وليست “كل عقدة ولها حلال”، تماماً مثلما تنبأت سيدات الفلك بسنت يوسف وليلى عبداللطيف وغيرهما، بأن اقتصادنا الوطني سيخرج من أزمته قبل أن يخرج ولا يعد.
بقلم أسامة مهران