الناقد الأدبي أحمد فرحات يكتب: اعتراف

كن حذرا من الأشخاص الذين يسقطون نواقصهم وخيباتهم في جوف حياتك، يتهمونك بالتقصير، ولديهم حيل خفية في غرس بذور الشك في نفسك، إنهم بارعون في قلب الحقائق..
أستطيع –مطمئنا- أن أصف شعر محمد الشحات بصفتين من أهم الصفات أولاهما: “الحنية” وهي سمة منبعها روح الشعر، التي هي روح غفل، ولكنها قوة من قوى الطبيعة؛ فالشاعر قادر على الانفعال والتأثير، والانفعال فيه ما يلهب الحس، فيدرك بقلبه ما لا تدركه العقول!
والأخرى؛ أنه قادر على أن يلتقط من فتات الحياة (أشياء الأشياء التي تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة) بأنامل ورعة. أو إن شئت قلت (والقولُ يَنفُذُ ما لا تَنفُذُ الإبرُ) لذا فإن شعره يقع في أتون بركان ثائر، تتلظى بحممه ألفاظُه وتراكيبُه وصورُه وموسيقاه ذات النغمة الصافية، ففي شعره رنين هادئ يرتفع تارة ويهبط أخرى، وبينهما يتردد الشعر مُتَرَنَّما به، يجابه بضعفه الإنساني العام نيران البركان وأوراه المستعر؛ لأنه شعر ذو طبيعة إنسانية رقيقة في مجابهة ضعفه.
ونقر بأن القصيدة الشحاتية بنية ذاتية خاصة، موضوعها في مبناها، ومبناها في علاقتها التي لا تشف عن غيرها، التركيز على الكلمات كإشارات دالة على شيء، كأن القصيدة تدل على دالها ومدلولها معا في آن، تأمل أفعالهوكلماته ومدى عمقها وتأثيرها ..
لم يبق بذاكرتي ما أذكرُهُ
حتى امرأةٌ
عانقتُ هواها أعواماً
كانت حين تهل علىَّ
أحس دبيبَ الأُلفةِ
وبشيء يرتبكُ بصدري
كانت تنبشُ في ذاكرتي
وتحاولُ أن ترجعني
وتُخرجنى من جُبٍّ أسكنُهُ..
يحتال الشحات على الأمر ببعض الحيل كدفاع ذاتي عن النفس، حتى يهرب من الضعف الإنساني الطاغي عليه، والضاغط على تفكيره.
حيل الدفاع النفسي: وهي حِيَلٌمُقَنَّعة وملتوية يستخدمها للسيطرة على الطاقة النفسية من أجل ألا يتعرض لمخاطر سيكولوجية منها ما هو إرادي وما هو غير إرادي.
الحيلة الأولى تتمثل في الارتداد أو الهروب من الواقع، ويتجلى ذلك في الأحلام باعتبارها حالة من حالات الهروب، وفي الوقت ذاته موقف دفاعي معاكس، العقل الباطن، يقال عن الحلم: حلم يحلم إذا رأى في المنام، وحلم به وحلم عنه وتحلم عنه: رأى له رؤيا أو رآه في النوم، بالضرورة هناك ارتباط بين (الحلم والرؤيا) بل إن الدلالات اللغوية للحلم والرؤيا واحدة إلا أن التمييز قد يقع بين الرؤيا والحلم وفق ما قدمه سعيد يقطين من كون الرؤيا الصادقة لها دلالة؛ فهي إذن (نص)، أما الحلم فمجموعة أوهام لا طائل لها، فهو (اللانص) وقد تتحول الرؤيا (النص) إلى (اللانص) حين يتعذر على المؤول منحها تفسيرا أو تأويلا، وحين لا يريد المؤول كشف وفض ذاتية الرائي. وقد فرق غاستون باشلار بين أحلام النوم وأحلام اليقظة، حيث يمنح الثانية الجانب الجمالي والبعد الإيحائي أكثر مما قد يكون في الأولى؛ إذ تتميز تصوراته بالتشديد على ضرورة التمييز بين أحلام النوم وأحلام اليقظة باعتبار الأولى لا تعدو أن تكون تعبيرا سلبيا واستلاما للذات ولا تنطوي على أي بعد جمالي أو طاقة إيحائية، بينما الثانية تعبير حي للذات عن دهشتها الوجدانية أمام مظاهر الوجود وعناصره الطبيعية.
وفي الأحلام يتحول إلى كائن آخر، أشبه بما هو مفتقده، يحلم بأن يكون نخلة، مرتفعة في فضاء الكون، تتباهى بارتفاعها وانتصابها شامخة عالية سامقة، وكأن النخلة معادل لما يفتقده ويتمنى ذلك الارتفاع والعلو، وفي حلمه للنخلة يشتهي ألا يراه أحد، لا الريح يطرفها، ولا يأوي إليها الطير، وقد انتبه لرعشة النخلة، وما هزه غير الحزن.. فيقول:
نخلةً كنتُ
يطاولني الحُلمُ
حين يثور دمي
أصير رطبا جنيا.
الثانية هي التقمص، حين يتقمص شخصيات أخرى: كالدرويش، والصوفي، ومهرج السيرك، والنجار، وبائعة الورد، والرجل العجوز.. والتقمص غير التقليد، لأنه ليس عاطفيا وانفعاليا ولا يتضمن إعجابا بالآخر.
الثالثة هي الكبت، وهو إحدى آليات الدفاع النفسي اللاشعورية؛ لأن عدم إشباع الرغبات يؤدي إلى الشعور بالألم بدلا من اللذة، وبسبب الكبت يلوذ الشاعر إلى نفسه، يعنفها ويجلدها بسياط من لهيب، كحل وسط، بين متطلبات النفس ورغباتها وفشله في تحقيقها. ولذا سوف نجد جلد الذات بشكل لافت في معظم قصائده، فيقول:
نزعت فؤادي
وعلقته على أستار بيتي
لعل الطيور التي لم تعد
تتمايل من شدوها
تدغدغني
وتسقط ما ظل يعلق بي
سأخلع ثوبي
وأمكث في الطل
حتى يأذن الله لي بأن أتطهر
الرابعة الإحباط وهو يعني عرقلة تحقيق هدف من الأهداف التي يريد الشاعر الوصول اليها بصورة واعية أو غير واعية. وهو إحباط شخصي إذا عجز عن تحقيق هدفه بسبب عوائق فسيولوجية، وغالبا ما يحدث الإحباط عندما تكون الطموحات أعلى بكثير من قدرة الأفراد وإمكانياتهم، فيعجزون عن تحقيقها. ومن ثم يلجأ إلى انفجار الصمت أو الخرس، كما في قصيدة “الخرس الزوجي”
كنت أحاولُ أن أبحثَ
عن سر ممارسةِ الصمتِ وزوجي
هل أدركني الخرسُ الزوجي
فما عادت نُتَفُ
الكلمات تراودني
كيما تكسر أسوارَ الصمتْ
كنت أراه يحيطُ بنا
يطبقُ طبقتهُ
فيكادُ يشقُّ الصدرَ
وينتزعُ الكلماتِ
مني أو منها..