الناقد أحمد فرحات يكتب: اللغة السرية

الحرف حجاب، والحجاب حرف… والحرف يسري حيث القصد: جيم جنة وجيم جهنم. .. وفي الحرف الجهل والعلم،.. إنما خاطبت الحرف بلسان الحرف، فلا اللسان شهدني، ولا الحرف عرفني..كما يقول النفري في استغراقاته الصوفية.

للحرف رمزية ، لتحمل مضامين صوفية، عرف بعضها الشعر العربي القديم في صورته التقليدية، وبعضها الآخر نابع من رمزية الحروف في الكتابة الصوفية عند السابقين، والمعاصرين في الوقت نفسه.

والشعراء العرب في استخدامهم للحروف حمولات دلالية تحيل إلى جسد الإنسان، ووجهه، فهذا ابن الوردي يقول:
أفدي الذي صدغُهُ لامٌ وحاجبُهُ
نونٌ وقامتُهُ ممشوقةٌ ألفُ
حروفُ خطٍّ منَ الوجهينِ هنَّ لنا
إنَّا لنَطلبُها منهُ فينحرفُ
ومن قبله عمر بن أبي ربيعة يقول:
وَجَبينٍ وَحاجِبٍ لَم يُصِبهُ
نَتفُ خَطٍّ كَأَنَّهُ خَطُّ نونِ

انتقى الشاعر الصوفي أحمد الشهاوي من الحروف العربية الثمانية والعشرين تسعة أحرف فقط هي: الألف والنون والسين والدال والحاء والعين والميم والكاف واللام. مما يدل على أن للشعر الصوفي لغة سرية باستخدامهم للحروف العربية نفسها، متخذين من غموض الحروف التي في مستهل سور القرآن الكريم متكئا يستندون عليه في سرية استخدامهم للحروف، وابتكار لغة خاصة بالصوفي شاعرا كان أو ناثرا. ومن ثم راحوا يرددون قول الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) من سورة الكهف. في محاولة جادة منهم لترسيخ دعائم اللغة الخاصة ليبتعدوا عن اللغة العامة التي يفهمها الناس جميعا. وذلك ابتغاء أمرين: الأول فهم كتاب الله تعالى ومحاولة كشف أسراره بطريقتهم هم. الثاني: محاولة اعتزال الناس في لغتهم، وتكوين لغة سرية يفهمها من ذاق فقط.

وذلك لأن التصريح بهذه اللغة قد يسبب لهم ضررا بالغا يصل بهم إلى حد القتل. فـ”الحروف التي هي مظاهر تفصيلها، مجملة في مداد الدّواة، ولا تقبل التّفصيل مادامت فيها، فإذا انتقل المداد منها إلى القلم تفصّلت الحروفُ به في اللّوح وتفصّل العلْم بها إلى لا غاية، كما أنّ النّطفة التّي هي مادّة الإنسان مادامت في ظَهْر آدم مجموع الصّور الإنسانيّة مجملة فيها ولا تقْبل التّفصيل مادامت فيها. ولمّا انتقلت إلى لَوْح الرّحِم بالقلم الإنسانيّ تفصّلت الصّورة الإنسانيّة”. ومن هنا فالقلم عند الصوفي ” عِلْم التّفصيل”. والنّونُ” علْمُ الإجمال”.فيقول الشهاوي

في ذلك ويشير في الحرف نون إلى الأم(نوال) رحمها الله:
خلقتِ، فاستويتِ، وانشطرت نفوسكِ سبعًا
سَبْعُ جَوَاهِرَ تَخرُج مِنْكِ، فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ تَتَرَقَّى نُونٌ،
وَيَعْرُجُ ألِفٌ سَارِيًا فِي سَمَاوَاتِكْ. فِي وَصْل ألِفِي وَنُونِهَا
يَنْخلقُ البَدْءُ وَتَتَشَكَّلُ الآيَاتُ الأُولَى، وَيَكُون القَلَمُ
هُوَ مَسْرَى الرُّوحِ، ولَوحُه مَلَكٌ رُوحَانيٌّ
أَوَّلُ نُورٍ يَسْطَعُ.
في سِنّهِ تَكٌونِينَ، وتَشْتَعِل نَوَالُ فِي نُونِهِ، مِنْكُمَا
تَبْدَأُ الفَاتِحَةُ، وَ بِي نُعِيدُ للمَوْتِ تَارِيخَهُ. »
وفي مقطع آخر يتكئ الشاعر فيه على توظيف الحرف العربي، وتحميله دلالات مغايرة فيقول عن أخته سعاد:
جَمَعْتِ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا
في سِينكِ
سِيْنٌ هِيَ الغَيبُ أَو بَدْؤُهُ
اسْتوَيتِ عَلَى العَرْشِ
كُنْتِنِي
ذَاتُكِ عَيْنٌ
أَلِفُ الكَمَالِ أَنْتِهِ
لا حَدَّ لي
وَأَنْتِ في بَرْزَخٍ
لا يَنتهِي خَطٌّ إِليكِ
بَدْءُ الشِّهَادةِ دَالِي
أنْتِ فَاعِلَةٌ
وَدَالُكِ لمْ تَكُنْ أَبَدًا دَلِيْلا للنِّهَايةِ
دَالٌ تَنَامُ لِتَفْتَحَ الدُّنيا
بسِينِ فَاتِحَتي
وحَاءُ أحْوَالي.
فحرف السين هو بداية الغياب والغيب، وذاتها حرف العين، والألف رمز به إلى حد الاكتمال، وحرف الدال هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهو في الوقت نفسه ليس دليلا للنهاية ..

وهكذا يكون الحرف عند الشهاوي حرفا غير نمطي، فيحمله دلالات مختلفة طبقا لحمولة المعنى والسياق.. فليس للحرف عنده دلالة واحدة، واستخدام مفرد؛ فالحرف الواحد يحمل من الدلالات الرمزية ما يفوق الحصر، شريطة أن يصل الشاعر إلى المعرفة والكشف والتجلي.

إذًن فالحرف حمولة رمزية صوفية خارج نطاق الأبجدية المعروفة. فإذا كان الحرف في الأجرومية هو الرابطة بين الاسم والاسم، أوالفعل بالفعل، فهو في اللغة الصوفية رابطة أيضا لكنها رابطة وجوديّة ومدخل للتقريب بين العبد والرّب، أو بين الإنسان والإنسان.

وهنا تكمن الرؤية الفلسفية الصوفية للحروف باعتبارها رموزا اعتباطية، لكنها مقصودة وموجهة إلى جسد الإنسان حيث يوجد في جسم الإنسان ثمانية وعشرون عضوا على عدد الحروف العربيّة. وفي هذه الحكمة يكمن فضل اللّغة العربيّة على غيرها من اللّغات. ومن ثم وجدنا توازيا بين المعنى المعجمي للحروف ودلالاتها المعنوية والنفسية الجسدية عند الخليل بن أحمد الفراهيدي في إشارته إلى وجوه الشبه بين الحروف العربية وجسد الإنسان فــ: “الشّين هو الرّجل الكثير النّكاح. والطّاء الشّيخ الشَّبِق. والظّاء صوت حركة الثّدي إذا تثنّت صاحبتُه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى