الناقد أحمد فرحات يكتب: الرواية

الجنس الوحيد الذي هو في صيرورة ولا يزال غير مكتمل..الرواية كتلة هائلة عديمة الشكل..
ولدت الرواية من رحم الزمن عصية عن التعريف الدقيق كالشعر والحب، فلا تعريف دقيق لهما.
تذهب بك الرواية إلى الفلسفة لتختبر حدود ما هو أخلاقي؛ فلو أن الرواية قررت أن شخصية ما قتلت شخصا شريرا يرهق الناس بشره. فبينما تذهب الفلسفة إلى التجريد، تذهب الرواية إلى التجسيد؛ إلى تحويل الأفكار المجرّدة إلى واقعٍ محسوس؛ إلى شخصيات وسياقات.

تطرح الرواية قضايا إشكالية متعددة، تتناول التاريخ وهي ليست منه، ولا يعول تاريخيا عليها، وتتناول المقدس وهي ليست مقدسة، وتتناول المدنس وهي ليست مدنسة، وتتناول المطلق والنسبي، المجرد والمحسوس، دون تمييز.

تخوض الروايةُ المعاركَ مع الطبيعة والبشر والكائنات الحية وغير الحية، تطير في الفضاء وتحلق في مداره، تنطق شخصياتها بالحقيقة وغير الحقيقة، تتناول الأسطورة والخرافة والعلم والعاقل وغير العاقل.

إنها بناء إشكالي كبير، تخرج منها وقد التبست عليك الأمور، تخلخل كل القوي بما فيها قوة العقل والإدراك، تشكك في المسلمات التي بنيتَ عليها أفكارك، وتربيت على أسسها العامة والخاصة، والرواية التي لا تلهمك الشك في المسلمات لا يعول عليها.

تعيد الرواية كتابة التاريخ بخيالها الأوسع من التاريخ ذاته، وتدني إليك المستحيل كأنه ممكن، وتعبث بعقلك اليقيني، وتثير الشك والريب فيما حولك. كما أنها تعيد صياغة المقدس بأحداثه ورموزه وشخصياته، وتكتب لك قصة الخلق من جديد، بعيدا عما استقر في يقينك من نظام الكون وقصة الخلق وتطوره.

كتب نجيب محفوظ رواية أولاد حارتنا موظفا ما لدى الناس من وعي ديني ومعرفة بآدم وحواء وعيسى وإبراهيم وإبليس.. فاتخذ منهم رموزا لشخصيات الجبلاوي، أدهم، خليفة، إدريس.. يراوح بين الحقيقة والخيال بين الديني واللاديني بين النسبي والمطلق بين الواقع المعيش والماضي البعيد وربما المستقبل المجهول. في صياغة روائية عبقرية تخلخل المستقر وتعبث بالحقيقة وتقدس الخيال وتنميه.

كما كتبت جيوكوندا بيللي قصة الخلق الأول موظفة الرجل الأول مكان آدم، والمرأة الأولى محل حواء، إذ تنهض الروائية في خلق خيال من نوع آخر تتصور فيه العلاقة بين الرجل الأول والمرأة الأولى في رواية “اللامتناهي في راحة اليد” وتكشف بمهارة عن غواية الاكتشاف، وتحاول أن تعيد ترتيب تلك القصة القديمة، قدم البشرية، في قالب روائي جذاب.

والطريف أن بيللي ومحفوظ اتخذا الفعل (كان) مبتدأ للعمل فقالت:
وكان. فجأة. من اللاكينونة صار كائنا يعي بما كان. فتح عينيه، تلمس نفسه فعرف أنه رجل، دون أن يعرف كيف عرف ذلك، رأى الحديقة وأحس أنه مرئي، نظر في كل الاتجاهات آملا في أن يرى آخرا مثله.
وبالطريقة نفسها قال نجيب محفوظ:

كان مكان حارتنا خلاء، فهو امتداد لصحراء المقطم الذي يربض في الأفق. ولم يكن من قائم إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما يتحدى به الخوف والوحشة وقطاع الطرق.

نلاحظ البداية بالفعل الأرضي(كان)كردٍعلى الفعل السماوي(كن). وفي الرواية تشعر حواء بالتحسرعلى تذوق شجرة المعرفة، والخروج من الجنة: “تذكرت حواء بحنين نور الجنة وسكينتها. تذكرت طمأنينة نفسها، وخواطر ذهنها البسيطة والبعيدة عن المفاجآت، وعن البكاء، والغم والغضب. ذلك الطفو الخفيف كورقة على سطح الماء”.

لكن في موازاة هذا الحنين إلى الفردوس السماوي، ثمة توق لـ (المعرفة) التي يكتسبانها يوما بيوم، وكأن تذوق ثمار الشجرة المحرمة كان قدرا، أو ثمنا للمعرفة التي تستحق كل هذا العذاب. تقول حواء لآدم: “لو لم نأكل الثمرة، لما قُيِّض لي أن أتذوق التين والمحار. ولما كنت رأيت طائر الفينيق ينبعث من رماده. ولما عرفت الليل. ولما أدركت الشعور بأنني وحيدة عندما تذهب” .

واستنادا إلى ما سبق فإن الرواية عمل واع لخلق حالة من الفوضى المتعمدة، أو قل العبثية الواعية عبر قانون التخييل للأشياء أو للإنسان ذلك الكائن الضعيف أمام قوى أعلى منه كالمرض أو الزمن أو الخرافة أو الأسطورة بمنطق اللامنطق. ينهار أمامها المقدس أوالمدنس أو التاريخي أوالفرضيات العلمية أو غير العلمية القارة في الأذهان. تحاول الرواية أن تجيب عن السؤال الذي لا إجابة نهائية له.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى