الناقد أحمد فرحات يكتب: الغلو
يؤدي الغلو دورا مهما في الأدء اللغوي للأدباء والكتاب والشعراء، فهو يقوي المعنى ويؤكده ويفسره بطريقة مثيرة حيوية، ويكون على ضربين: مقبول حسن، ومغالى فيه غير حسن، وهو الإفراط في مجاوزة المقدار.والزيادة في الشيء أو الصفة.
فمن الغلو الحسن القوي الذي يؤدي المعنى بحيوية وجمال قول الله تعالى: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ..النور 35، وفي الشعر يجيء الغلو مستهجنا تارة ومقبولا تارة أخرى.
ومن أمثلة الغلو المقبول قول المعري:
تكاد قسيّه من غير رام
تمكن من قلوبهم النبالا
تكاد سيوفه من غير سل
تجد إلى رقابهم انسلالا
فالقسي التي تسدد -من غير رام- سهامها إلى القلوب فتصيبها، والسيوف التي تصل إلى الرقاب من غير أن تخرج من غمدها أمور تجعل الغلو مقبولا لأنه يمكن تأويلها بالعيون أو النظرات التي تذبح بدون إراقة دماء.
وقول الشاعر:
تكاد يدي تندي إذا ما لمستها
وينبت في أطرافها الورق النّضر
فعلى الرغم من وجود قرينة وأداة (تكاد) فإنني لا أراها مستحسنة. أيعقل أن يلمس الرجل يد محبوبه فينبت في باطن اليد أشجار وأوراق وثمار؟ المعنى بعيد وإن قبله النقاد القدامى واستحسنوه لوجود قرينة(تكاد)
ومثله قول المتنبي:
لو تعقل الشجر التي قابلتها
مدت محيّيه إليك الأغصنا
فالشجر لن يعقل ولن يمد يده ليصافح أحدا، ولكنها مبالغة في الترحيب.
أما قول أبي نواس في وصف الخمر:
فلما شربناها ودب دبيبها
إلى موضع الأسرار قلت لها: قفي
مخافة أن يسطو علي شعاعها
فيطلع ندماني على سري الخفي
فهو عندي مستحسن مقبول، وجيد لأن سطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفّافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة، ولكنه من باب ذهاب العقل، وإذا ذهب العقل ذهبت الحواس، وأصبح كل شيء جائزا في الشعر.، فهو أشبه بأضغاث الأحلام.
أما قول أبي نواس
وأخفتَ أهلَ الشِّركِ حتى أنه
لتخافُكَ النّطفُ التي لم تُخلقِ
فهو غير مقبول عندي وعند النقاد القدامى لأنه يمس شغاف الإيمان ويشكك في النوايا الإيمانية.
ومنه قول ابن هانئ الأندلسي في مطلع قصيدة يمدح بها المعز لدين الله الفاطميّ
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ
فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهارُ
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار
أنت الذي كانت تبشرنا به
في كتبها الأحبارُ والأخبارُ
هذا إمام المتقين ومن به
قد دوخ الطغيان والكفار
هذا الذي ترجى النجاة بحبه
وبه يحط الإصر والأوزار
هذا الذي تجدي شفاعته غداً
حقاً وتخمد أن تراه النار
فهذا غلو ممجوج مستهجن غير مستحسن بل مكروه.
وفي الحديث هناك غلو مقبول مستحسن عند الشاعر الإعلامي زينهم البدوي له ما يبرره ويخفف من حدته في النص الشعري، إن تمسك الشاعر بالمسلمات الاجتماعية القائمة في مجتمعه جعلت للغلو والمبالغة فيه دورا في ترسيم حدود القصيدة لديه، وكانت إحدى الدعامات القوية لتوصيل الهدف والغاية فلجأ إليها لا واعظا ولا خطيبا، بل حقيقة قارة في باطنه الشعري، والحقيقة الشعرية تختلف عن الحقيقة المطلقة، فالحقيقة الشعرية تتأتى نتيجة انفعال لا افتعال، بحيث تكون أقرب إلى النفس لا إلى الواقع المعيش.
أترجم عشقي الولهان فعلا
يفوق النجم زهوا في سماكا
لو يعلم اللوام أني شاعر
يبغي مثالا ليس منه اثنان
وأنا الذي بفصاحتي أطأ الذرى
وإلى الثريا يرتقي تبياني
ثلاثة أبيات تلخص فكرة الغلو أو المبالغة في شعر الأستاذ زينهم البدوي، والغلو هو تجاوز حد المعنى إلى غاية لا يكاد يبلغها. والغلو في أصله انفعال بالتجربة وتأثر مباشر بها، والانفعال الشعري هو في ظاهره غلو، وفي جوهره حرية مبدعة، تزيل ما في العالم من نقص وشوائب، وتمنحه الكمال وترفعه إلى المثال الذي يتوق الإنسان إليه أبدا.
ففي الأبيات السابقة غلو انفعالي، وليس افتعاليا، نجم عن انفعال حقيقي، توهج عن صدق المشاعر، وبدا معبرا عن تجربة نفسية عميقة حيث تقلصت صورة الواقع الفعلي وغامت وبدت المبالغة -وإن خالفت صورة الواقع وتعالت عليه- مشوبة بإطار نفسي خفف من حدتها وتجاوب مع مفرداتها فانثالت على الشاعر هذه الأفكار انثيالا مقبولا محببا.
وعندما تكون المبالغة نابعة عن افتعال وليس انفعالا تجد الشاعر يجنح إلى عبارات صادمة قلقة كقوله:
يا ويح مكة حين يقصى أهلها
وتصير نهبا للدعي ابن(المره)
وآبى أن أطبل للمجافي
لكل حقيقة؛ تعلي علاكا