رغم همومه وقلقه على لبنان وغزة وما بينهما، كان المفكر اللبناني الكبير حمزة عليان الدائم الإقامة في دولة الكويت الشقيقة كأحد أهم الصحافيين العرب في جيله، يتابع عن ظهر قلب اجتماع أفريقي للإجهاز على ما تبقى من نهر النيل الخالد.
في غفلة من مصر المشغولة بما يحدث في غزة ولبنان، وفي سبات عميق للسودان إثر قتال فصائله المريع منذ سنوات بهدف السيطرة على الحكم، تسللت أثيوبيا ومعها عدة دول مطلة على حوض نهر النيل العظيم لتثبت عدم أحقية مصر والسودان المائية من النهر التي ظلت حقًا تاريخيًا مشروعًا منذ مئات السنين إلى الوراء، مرورًا باتفاقيات دولية منحت الدولتين العربيتين و55,5 مليار متر مكعب من المياه لمصر، و18,5 مليار متر مكعب للسودان.
أثيوبيا بتحالفاتها المشبوهة تمكنت من استقطاب سبع دول على حوض النيل للتوقيع على اتفاقية عنتيبي التي اعترضت عليها مصر والسودان من قبل، الاتفاقية التي تم التوقيع على البدء في تنفيذها يوم الأحد 13 أكتوبر الماضي، ألغيت تمامًا اتفاقيتي مياه النيل لعام 1929 وعام 1959 مما ألغى بطبيعة الحال أية التزامات قانونية كانت أثيوبيا تعتبرها عبئًا عليها منذ “سد النهضة” وقبله، وحتى اللحظة.
ووفقًا لمقال نشره مؤخرًا الزميل حمزة عليان، أصبح المصطلح الجديد وفقًا لـ”عنتيبي” هو الاستخدام العادل لمياه النيل بدلاً من إلزام أثيوبيا بـ”توزيع حصص” على دولتي المصب مصر والسودان، بمعنى أنه بدلاً من أن يكون من حق الدولتين “المشغولتين” في نحو 74 مليار متر مكعب من مياه النيل القادمة عبر “النيل الأزرق” الأثيوبي، والتي تشكل الحصة الأعظم للدولتين من مياه النيل مجتمعة، سوف تكون السيطرة على هذه الحصص من خلال أثيوبيا، تمنحها أو تمنعها أو تتركها “منة” من الله عز وجل.
هكذا توصلت أثيوبيا إلى ما كانت تسعى إليه، نيل عظيم اكتسب عظمة من مصر والسودان، ذكريات شعبه من شمال وجنوب الوادي العريق، وسطر تاريخ أمة على مدى سبعة آلاف سنة وأكثر بأحرف من نور.
هكذا وألف هكذا تقف دول صديقة وربما شقيقة “للأسف” بجانب العدو الأثيوبي في سرقته الواضحة لحقوق مصر والسودان في الحياة، اعتداء سافر على أمن قومي في الجنوب، استكمالاً لمخطط الاعتداء الأكثر سفورًا على التهام أمة الرافدين بمخطط تركي واضح لإغراق الشعب العراقي العظيم في جفاف نهري دجلة والفرات وتعطيش شعبه بعد آلاف السنين من العزة والكرامة.
استهداف “مجهول الهوية” لأمتنا العربية، دول الجوار التي هي الأخطر على أمننا القومي، ودولة إسرائيل المزروعة في قلب الوطن رغم أنف شعبه وليكن ما يكون.
هكذا نحن دائمًا ننشغل في قضايانا وربما بأنفسنا، ويأتي إلينا عدو لا نحسب حسابه، ولا نتوقع أهدافه، ليجهز على ما تبقى لنا من موارد وإمكانات، والهدف – إخضاعنا للمهانة الأممية ومد اليد لـ”صندوق دولي” لا يرحم، لمجتمع أممي لا يراعي أية قيم إنسانية في التعاطي مع الشعوب الأقل نموًا، والأقل قدرة، والأكثر وهنًا في هذا الكون.
أثيوبيا تمكنت، وساعدها من كنا نعتقد بأنهم يميلون كل الميل لنا، استغلوا مشاغلنا، أطفالنا ونساءنا وشبابنا وشيوخنا الذين يقتلون بدم بارد في غزة ولبنان والضفة الغربية، وما قد يحل علينا من كوارث لهو أفظع وأعظم.
انشغلنا بالشمال والشرق، بما يحدث فيهما لنا ولأشقائنا، فإذا بنا نجد ثلث مياه نهر النيل حسب آخر إحصائيات لوزارة الري والموارد المائية المصرية وقد تبخرت بفعل سد النهضة الأثيوبي.
حالة تجويع وتعطيش لشعب ظل يبني أعظم حضارة في الكون على ضفاف نهر النيل العظيم، وها نحن اليوم نرى هذا النيل وهو يجف قطرة قطرة ويذهب مثلما يذهب شهداءنا كل يوم في غزة ولبنان وما بينهما إلى المجهول.
النيل ليس في خطر فحسب، إنما في بداية مشوار “ذهب ولم يعد”، فقد يأتي علينا يوم، ونفتح نوافذ بيوتنا، ولا نجد نيلاً ولا حياة.