أحمد فرحات يكتب: الاستلزام الحواري

كل خطاب شعري أو نثري أو كلام عادي له منطوقان: أحدهما ظاهر جلي، والثاني مستتر غير مصرح به، وغير المصرح به هو الهدف والغاية، وهذا ما يسمى بالمستلزم الحواري، ومن أهم التعاريف الحديثة التي قدمت بخصوص الاستلزام الحواري: المعنى التابع للدلالة الأصلية للعبارة، بعبارة أخرى هو ما يرمي إليه المتكلم بشكل غير مباشر، جاعلا مستمعه يتجاوز المعنى الظاهري لكلامه إلى معنى آخر.    

وبناء على ذلك فإن المعنى هنا هو الهدف والغاية المنشودة من الشاعر لأنه يرمي إليه بطريقتين: الأولى تتمثل في ظاهر القول وصياغته، والثانية هي المعنى غير المصرح به أو الاستلزام الحواري. فالمعنى الظاهر عند الشاعر يروم من خلاله تقديم رسالة اعتذار لمحبوبه، وتبرئة ساحته من أي إثم يشوب علاقتهما، وفي كل بيت تقريبا يلح عل هذه الفكرة بأكثر من صياغة؛ تأمل معي قول الشاعر محمود حسن:

أنـا بلا خطأٍ فى الحــبِّ يُخْــجِــلُنِى

وما عبـــثت كمــا العــشَّـــاقِ بالحِيـَلِ

بكـــرٌ أنــا رئـــتى قــلــبى وقافـــــيَـــتِى

إنِّى ادَّخَرْتُ.. أنا (حوَّشْتُ) فى أجلى

حتَّى إذا ظهرتْ رُؤْيــــاكِ فى خَلَدى

تَفَــــجَّـــرَ المـــاءُ مَكْــــيَّا من الجــبل

أما المعنى الآخر فإنه يتمثل في محاولة إثبات القدرة الفنية، وأن القصيدة في شكلها التقليدي قادرة على حمل الكثير من الرغبات النفسية للشعراء، ومن ثم راح يغازل صاحب المقام العالي الشعر؛ فالشعر وحده قادر على التعبير عن الواقع، وإعادة صياغته بعين الحالم والإنسان الشاعر، وما المحبوبة هنا إلا الشعر نفسه في أبهى صورته، وكمال نشوته ولذاذته، واعتذاره للمحبوبة هو اعتذار لمن شوه قدسية الشعر، وأذاه في طهره وعفته. وحتى يستقيم للاستلزام الحواري صدق نتائجه لابد من توافر شرطين، وضعهما “كرايس” هما:

معنى الجملة المتلفظ بها من قبل متكلم في علاقته بمستمع.
والمقام الذي تنجز فيه الجملة.

ومن ثم نتأمل قول الشاعر:

مــا ذنبُ قــافيــةٍ أنْ قـــالَ شـــاعِــرُهَا

                  والرُّوحُ تبحثُ فى الأرواحِ عن مَثَلِ

وبناء على ما تقدم فإن معطيات التأويل الدلالي للنص لا تقتصر فقط على المعطيات الظاهرة التي يقدمها النص، بل تتعدى ذلك إلى ما هو أعمق وآكد.

واستنادا إلى ما سبق فإننا يمكن أن نتناول شعرا ماجنا في مضمونه لكنه يهدف إلى ما هو أسمى من المجون والفسق، الشاعر الذي قَلَّ حَيَاؤُهُ فِي شِعْرِهِ. فأصبح رَجُلامَاجِنا.الشاعر البذيء ابن الحجاج البغدادي من القرن الرابع الهجري. توفي 1001م.

نقل الصفدي عن ابن الحجاج قوله:

“أعانني على مذهبي في (الفحش والمجون) أن أبي ابتاع دارا في قرية فاشتراها منه قوم أسكنوها الشحاذين والعرباء السفل، وذوي العاهات المكدين، فكنت أسمع في ليالي الصيف خاصة مشاتمات رجالهم ونسائهم فوق السطوح ومعي دواة وبياض، أثبت ما أسمعه”

وقال يصف سخف شعره:

أيا مولاي هزلي تحت جدي    وتحت الفضة انحرف اللحام

وشعري سخفه لا بد منه        فقد طبنا وزال الاحتشام

وقال:

لو لم أشبب بشَعر عانتها  ما طاب للناس كلهم شعري

وصفه الذهبي بأنه:

“شاعر العصر وسفيه الأدب وأمير الفحش، كان أمة وحده في نظم القبائح وخفة الروح”

ولماذا نبغ ابن الحجاج في المجون حتى عدّه الصفدي (إمام المجون)؟ وهو ينحدر من أسرة لها مكانتها ووجاهتها؟

يجيب الشاعر نفسه:

سيّدي سُخفي الذي صار يأتي بالدواهي

أنت تدري أنه يدفع عن مالي وجاهي

فشعره يعكس انحطاط الأوضاع السياسية والاجتماعية في عصره بحيث تهافت الأمراء والحكام على شعر السُّخف والمجون بألفاظه البذيئة. فلعنا الآن ندرك شيوع المجون والفسق في مجتمع من المجتمعات العصرية أنها بفعل فاعل.