فاتن حمامة.. لهذا أعطاها الجمهور ثقة على بياض
نشرت مجلة الموعد في أحد أعدادها الصادرة في الثمانيات تقريرًا عن الراحلة الكبيرة الفنانة فاتن حمامة، بعنوان ” فاتن حمامة.. لذها أعطاها الجمهور ثقة على بياض؟
وجاء نص التقرير كالتالي: يقول: لأن شخصية الفنانة فاتن حمامة، هى ظاهرة نادرة من حيث الارتباط الزمنى الطويل بينها وبين الجمهور، فإن الناقد الكبير الذى يختفى وراء اسم ( ابن بطولة ) يحاول أن يحلل فى هذا المقال جوانب تلك الظاهرة ..
سئل الأديب الأمريكى “ويليام فولكتر” مرة: ماهو سر النجاح؟ ورد فولكنر: أن وجود الموهبة هو تسعة وتسعين فى المائة من السر.. والنظام هو تسعة وتسعين بالمائة: والعمل هو تسعة وتسعين بالمائة.
وأضاف فولكنر: لا يجب عليك مطلقًا أن تكون راضيًا عما تفعله، عليك أن تحلم دائمًا وتصوب إلى أعلى مما تتصور أنك تستطيع، لأن عليك دائمًا أن تكون أحسن من نفسك: وفى السينما العربية، لا يوجد مثال عملى على ذلك أصدق من فاتن حمامة.
فمع فاتن حمامة تستطيع أن تجد دائما الأسرار الثلاثة، تستطيع أن تجد الموهبة، وتجد النظام، وتجد العمل، ومع فاتن حمامة تستطيع أن تجد المنناقضات أيضا، لقد حصلت على الشهرة، منتهى الشهرة، بغير أن تسمح مثلا لحياتها الشخصية أن تكون مادة ثانية فى أعمدة الصحف.
وحصلت على الحب، منتهى الحب، بغير أن تعطى للجمهور مرة واحدة احساس بانها تنافقة أو تتزلف إليه، وحصلت على الاحترام، منتهى الاحترام بغير أن يتهمها أحد بالتعالى أو الفطرسة أو الغرور، أن فاتن حمامة موجودة وغير موجودة، وحترمة وغير مبتذلة، مشهورة وبغير رخص.
وهى بعد هذا كله تتربع منذ جيلين كاملين على عرش السينما العربية، لقد ظهرت فاتن حمامة على الشاشة فى البداية طفلة، ثم فتاة ناضجة، لكى تقدم لبنات جيلها نموذجًا على الشاشة يحملن به ويتعاطفن معه.
نموذج الفتاة البريئة المسكينة التى نقذفها عواطف الشر فى طريقها بغير ذنب اقترفته، ولكن لأن الخير يجب أن ينتصر فى النهاية، فان هذه الفتاة الوحيدة المظلومة البرئية تكسب المعركة، وتكسب معها عواطف الجمهور وتصفيقة ونقوده.
تلك الفتاة، كانت هى حلم الفتاة العربية فى الأربعنيات والخمسينات والستنيات، فتاة لا تناضل لأن القدر يقف فى صفها دائمًا وهى ضعيفة، لأن هناك قوة سحرية تنقذها فى اللحظة الأخيرة دائمًا، ولكن الفتاة العربية تغيرت.
أنها لم تعد هى ذلك الطرف الضعيف المستسلم الذى يقضى عمره كله فى انتظار معجزة من الزمن، لقد خرجت الفتاة العربية إلى سوق العمل وغابة الحياة، ليس فقط لكى تعيش وتسير فى انتظار دائم، وإنما كى تواجه وتتحرك وتقتحم.
شخصية فاتن حمامة في أفلامها
ماذا تفعل فاتن حمامة ؟ هل تتمسك بماضيها وتثبت به، أو تقتحم المستقبل هى الأخرى؟ لقد افتحمت فاتن المستقبل، أن صورتها فى فيلم” ظلمونى الناس” غيرها فى فيلم “أريد حلا” وهى فى فيلم ” دعاء الكروان” غيرها فى ” أمبراطورية ميم” والصورة التى ستبرز اطارها بفيلمها الجديد “لا عزاء للسيدات” هى غيرها فى “لحن الخلود”.
إنها لا تجلس فى مكانها بانتظار المستقبل، ولكنها كانت دائمًا موجودة هناك موجودة مع جيل أخر من الفتيات العربيات، لم يذهب إلى السينما لكى بذرف دموعه، ولكن لكى سرى نفسه، لقد عبر “يوجين أونيل” عن بطلته مرة، مصورًا لها فى البدايه فتاة ساحرة، ثم أما لرجل عمره 26 سنة، ثم 26 سنة ، ثم جده فى النهاية.
وهى فى جميع هذه الأدوار متقنة وجذابة وفاتنة وبطلة حقيقية، ونفس الشئ فعلته فاتن حمامة، لقد تعاطف معها جمهور السبعنيات بنفس تعاطف حماس جمهور وصل فى حماسة لها الى درجة انه قبل منها ما لم يقبله من غيرها، لقد قبل منها الجمهور مثلا قصة عادية مثل:” أفواه وأرنب” لا لشئ سوى ثقه على بياض يمنحها لفاتن حمامة ولا يمنحها لغيرها، وقبل الجمهور منها دورًا رومانسيًا ناعمًا ورقيقًا مع محمود ياسين فى فيلم “حبيبتى ” فى زمن تراجعت فيه الرومانسية إلى الوراء .
اسم فاتن حمامة وثيقة تأمين
هذا رصيد فاتن حمامة الحقيقى، لقد أصبح اسمها فى حد ذاته هو وثيقة تأمين بالنسبة لجيل، وشهادة ثقة بالنسبة لجيل آخر، وفى الغرب مثلا، نجد أن السمة الأخيرة فى هوليوود، عاصمة السينما هى أن فيلمًا واحدًا يمكن أن يخلق اتجاهًا كاملًا بين الجمهور.
أن شركة “بارامونت” مثلا تستمد سمعتها الحالية من فيلمين حققا لها إيرادات قياسية، الأول هو فيلم “قصة حب” الذى حقق إيرادا صافيًا بلغ 48 مليون دولار , والثانى هو فيلم ( الاب الروحى ) الذى وصلت أيراداته الى 145 مليون دولار.
وعندنا هنا لن نجد هذه الأرقام ، ولكنك ستجد مشاعر تتعادل مع الأرقام .. وفى الحديث عن المشاعر، لا أحد غير فاتن حمامة يمكنه أن يخلق فى الجمهور اتجاهًا كاملًا.
وفى نفس الوقت يعبر للجمهور عن اتجاهات موجودة فعلًا، إنها الآن، ومن قبل سريع على عرش السينما العربية، ولكنها لم تكن تستطيع أن تفعل ذلك إلا لأن عينها دائمًا على المستقبل، ولأنها تريد أن تكون دائمًا أفضل من نفسها.
ولأنها تؤمن بأن ذكاء الفنان هو بنفس ضرورة موهبته، أن فاتن الآن على الشاشة، ليس بالضبط فتاة الأحلام العاشقة، التى تثير فى خيال المتفرج خيالات سندريلا، ولكنها المرأة الناجحة، والأم أحيانًا، التى أحب كمتفرج أن أغرق رأسى فى صدرها.
أن أختبارها يمكن أن يخونها أحيانا وأدب السينما يمكن إلا يسمعفها أحيانًا ولكنها تملك القدرة دائمًا على الذهاب إلى المستقبل قبل أن يفاجئها أنها وصلت إلى مرحلة، يتجمد فيها الفنان داخل كهف سحيق من الماضى، فإذا كان ممثلًا فإنه لا يأمن إلا لمخرج أو اثنين هما رصيد ماضية.
ولا يتعامل سوى مع مؤلف أو اثنين أعتادات أن يكون شئيًا مضمونًا ومؤكدًا فى الماضى، ولكن فاتن حمامة ليست كذلك أنها تبحث عن مخرج جديد، وكاتب جديد، ومتفرج جديد، لأنها تريد أبدًا أن يتجمد رصيدها عند الماضى.
مع فاتن حمامة الذكاء هو بنفس ضرورة الموهبة، بل هو نفسه جزء من الموهبة، أنها لم تعد فى حاجة إلى الانتشار، فمنذ وقت طويل وهى ليست فى حاجة إلى المستوى، فى حاجة إلى أن تقدم للمتفرج الشخصيات جديدة، وليس مجرد أفلام جديدة، أنها تعرف ذلك، وهى تقدمةه للمتفرج قبل أن يدركه هو نفسه، ولهذا، فان الجمهور أعطاها من الحب بقدر ما أعطته هى من العظمة، وأعطاها من التصفيق بقدر ما أعطته هى من التفوق على نفسها.