الناقد أحمد فرحات يكتب: الجزَّار

يحيي بن عبد العظيم شاعر مصري، عاش في القرن السابع الهجري، ولد سنة 601هـ ت سنة 679هـ، لقب بالجزار لأنه كان يحترف حرفة الجزارة فعليا، تركها ولجأ إلى الشعر، ولما لم يعطه الشعر شيئا عاد إلى حرفته الأولى جزارا. هو امتداد للشعراء الصعاليك، وفيه خفة روح المصريين، وسخريتهم المحببة، ونحن في واقعنا المعيش نشبهه، روحا فكهة، وسخرية لاذعة.

أنا مؤمن بأن حرفة المبدع شاعرا / قاصا سواء كان طبيبا أم مهندسا أم محاسبا فإنها تلقي بظلالها على إبداعه.

كيف لا أشكر الجزارة

                        ما عشـت حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها أضحت الكلاب ترجِّيـني

                           وبالشعر كنت أرجو الكلابا

يشير الشاعر بالكلاب إلى الفاسدين في أيامه، وقد أضحت تناشده وتتودد إليه عندما ارتقى إلى بلاط الحكام والوزراء، وهو مَنْ كان يتودد إلى الكلاب تعبيرا عن فقره وهو جزار.

وقد كان الجزار شاعرا محبوبا من الناس، فأقبلوا على شعره بشغف لأنه شعر قادر عن التعبير عن فئات المصريين وطبقاتهم. يقول ساخرا عن مهنته:

فاللحم والعظم والسكين تعرفني

                     والخلع والقطع والساطور والوضم

ويقول عن الكنافة بروح مصرية شعبية:

سقى الله أكناف الكنافة بالقطر

                         وجاد عليها سُكَّرٌ دائم الدَّرِّ
وتباً لأوقات المخلل إنها

                      تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري

ويقول عن دار له سكنها وهي آيلة للسقوطفيشكو حاله في أشعار كثيرة، معبراً عن أسفه وحسرته وحزنه، لكنه مع ذلك، يمضي في منحاه الفكاهي عوضاً عن مآسيه، وتخفيفاً لآلامه يقول، ساخراً من بيته الآيل للسقوط:

ودارٍ خَرابٍ قد نزلتُ

                              ولكِنْ نزلتُ إلى السَّابِعة
فلا فرقَ ما بين أني أكون

                              بها أو أكون على القارعة
تُساورهَا هَفواتُ النّسيمِ

                                 فَتُصْغِي بلا أُذنٍ سامعة
إذا ما قرأت إذا زلزلت

                               خشيت بأن تقرأ الواقعة

الشعراء المصريون صابرون على ظروفهمالقاسية، يلتمسون الفرج بعد صبر جميل، ومعاناة من الغربة عن الحياة الرخية التي يتمنونها. وتلك المعاني التي نراها هنا تجسيد لأحوال عامة المصريين الذين يتمسكون بالحياة رغم قسوتها، ويرضون بما قسمه الله لهم، ولا يستسلمون للحزن بل يستبدلونه بالسخرية والفكاهة والأمل تنفيساً عن مشاعر الحزن والإحباط. وأرى أن الشاعر المصري الكبير عزت الطيري هو وريث خفة الروح المصرية التي رأيناها عند الجزار. فيقول الطيري:

وعندما تصيرُ حلوتى (لجينُ)..  زوجةً
لفاتنٍ يحبهاأكون قد غادرتُ منزلىِ

إلى مقابرِ الأفيالِ..مفردا بلا صحابٍ

أو كتابِ شعرٍساحرٍ..وربما أكونُ عاجزاً
وماشياً
على عُكَّازةٍ ضريرةٍ
أسائلُ الأطفالَ عن طريقِ بيتنا
(الذى أنا أماَمَهُ)

ويقول في قصيدة لا تخلو من خفة ظل المصريين “درسان فى الإعراب“:

1

أعربْ: مابين النهدينِ

ظرف مكان ٍ
يعبقُ بعبيرٍ
رخوٍ
أمْ فعلٌ
آتٍ
مرفوعٍ ٌ
بالضمِّ

2
مارقَّتْ سلوى
للولدِ العاشقْ
أعربْ سلوى
-سلوى فاعلْ
-ليستْ فاعلْ
هل رقَّتْ سلوى للولد العاشق؟؟!!!

ولا يخلو شعر عزت الطيري من السخرية حتى من نفسه، ولكنها سخرية مُرّة ..

ياعنترَعصركَ وزمانيكَ،اختطفوا، من شِعرِك عبله

تبَّاً لكَ

تبينٍ

ثلاثة تباتٍ
ياهذا الأبله


هذا شعر ساخر معجون بروح مصرية خالصة تتدفق فيه السخرية السوداء ؛ شعر معجون بماء الحزن يقول ما لم تقله قصيدة عصماء وزنا وقافية..

يا أيها المتزوجون
لاتنجبوا الأطفال بعد اليوم إن الموت قادمْ
فى شكل حافلةٍ يمزقها القطار
فى شكلِ نقصٍ فى الدواءِ

فى شكلِ جرثومِ
يحط على الغذاءْ
فى شكل ماء آسنٍ
يسرى بأمعاء الصغارْ
فى شكلِ بيتٍ
قد أقيم بلا أساسٍ
كى يجىءِ الإنهيارْ
فى شكلِ خبزٍ فاسدٍ
فى شكلِ شيخٍ فاسدٍ
يغتال ُ حلم براءةِ
الطفل المطهَّرِ لو يلوثه الشذوذْ
فى شكلِ مدرسةِ تعلمك الخرافه
فى شكلِ بردٍ حين ينعدم الكساءْ
فى شكل نقصٍ فى الوقودْ
فى شكلِ جوعِ كافرٍ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى