أحمد فرحات يكتب: القصائد المُعَرَّاة
(مقال متخصص)
يراد بهذا النوع من الشعر أن تكون القصيدة بجملتها خالية من أحد حروف الهجاء، كنظم قصيدة تكون خالية من حرف معين كالواو أو الألف أو السين مثلا والذي أطلق عليها هذا الاسم هو مصطفى صادق الرافعي رحمه الله.
وتتخذ جميع هذه القصائد خطبة واصل بن عطاء عونا لها على الرغم من كون الخطبة نثرا لا شعرا.
فقد خطب واصل بن عطاء(80-131هـ) خطبة خالية من حرف الراء لأنه كان رجلا ألثغ فاحش اللثغة، وكان أديبا مفوها، بيد أن لثغته كانت عائقا في مخاطبة الناس، فقرر أن يخطب خطبة عصماء خالية من الحرف الذي يسبب له الحرج بين الناس فارتجل خطبة خالية من حرف الراء وقام خطيبا في الناس، وقد سجلتها كتب الترث لتميز بنيتها اللفظية وسماتها الأسلوبية الجلية فقال:
“الحمد لله، القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلق على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعاً، وعدّ له اصطناعاً، فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته..
قال الجاحظ عن هذه الخطبة : “كان واصل مع ارتجاله الخطبة التي نزع منها الراء، كانت مع ذلك أطول من خطبهم”.
وكان هذا الأمر مقصورا على المنثور ولا يتعدى مع ذلك ما يُنسب إلى أبي حذيفة، حتى جاء الصاحب بن عباد المتوفى سنة ٣٣٥ فجعله في المنظوم. قال الثعالبي في ترجمة أبي الحسين علي بن الحسين الهمذاني: وكان الصاحب صاهره بكريمته التي هي واحدته … ولما قال الصاحب قصيدته المعرّاة من الألف التي هي أكثر الحروف دخولا في المنظوم والمنثور، وأولها:
قَد ظلَّ يَجرحُ صَدري
مَن لَيسَ يَعدوهُ فِكري
ظَبيٌ بِصفحةِ بَدرٍ
يَزهو بِه سَطرُ شعرِ
كَم ملتُ فيهِ لِوَصلٍ
وَكم يَميلُ لِهَجرِ
وهي قصيدة طويلة في مدح أهل البيت «لأن الصاحب كان علويٍّا».
فاستمر الصاحب على تلك المطية، وعمل قصائد كل واحدة خالية من حرف من حروف الهجا، وبقيت عليه واحدة تكون معراة من الواو، فانبرى أبو الحسين لعملها وقال قصيدة فريدة ليس فيها واو وأولها:
برقٌ ذكرتُ به الحبائب
لما بدا فالدمعُ ساكب
أمدامعي منهلَّة
هاتيك أم غُزُر السحائب
نثرت لآلئ أدمعٍ
لم تَفتَرِعْها كفُّ ثاقب
بقي أن نشير: أن المتأخرين قد فعلوا ذلك وزادوا، ولكن هذا هو الأصل وما بعده عالة عليه.
أما القصائد البتراء فهي التي تدخل في غرضها مباشرة دون تمهيد على غيرها من القصائد. والقصائد التي لا تبدأ بمقدمات يسميها النقاد مسميات مختلفة كالبتراء، والوثب، والقطع، والكسع، والاقتضاب.
اعتاد العرب أن يبدأوا قصائدهم بمقدمة طللية أو غزلية في معظم قصائدهم، والقصيدة التي لا تبدأ بتمهيد غزلي أو طللي تسمى بتراء.
الاختلاف بين البناء الشعري القائم على مقدمة، والبناء الشعري غير القائم على مقدمة، هو اختلاف في طريقة الأداء الشعري، لا اختلاف في جودة العمل الإبداعي، فليس العمل القائم على النمط الأول عملا هزيلا والقائم على النمط الثاني راقيا، ذلك أن مجموعة من الشعراء الكبار نظموا قصائدهم على النمطين معا كامرئ القيس ولبيد والنابغة… وهم أصحاب المعلقات، والقصائد الطوال الجياد.
وفي الحديث يفاجئنا الواقع الأدبي بمصطلح جديد “القصائد الخرساء” ويعنون به قصائد النثر، على اعتبار أنها ثمرة من ثمار الصمت الذي أُصبنا به، ونحن خرس لا نقول ولا ننشد على حد تعبير أحمد عبد المعطي حجازي.
وبعد؛ فقد ذكرت ثلاثة مصطلحات من النقد العربي الخالص وهي: القصائد المعراة، والقصائد البتراء، القصائد الخرساء وكلها ورد نتيجة استقراء للشعر العربي، من نقاد عرب. بعيدا عن النقد الغربي أو النقد المُعَلّب في قوالب جاهزة، وما أحوجنا –الآن- إلى هذا وذاك!