لم أتصور أن ينحدر بنا الحال الفكري المصري والعربي إلى ما وصلنا إليه حاليًا، اتفق المثقفون على أن يختلفوا، أن يغرقوا في بحور الظلمات، وألا ينتشلوا أحد من الغرق، تمادوا في البحث عن “سبوبة”، عن مرآة عاكسة للتربح وليس للواقع المرير، بين الماضي والحاضر كاسحات ألغام، بوادر زهايمر ثقافي وسكينة حتى آخر العمر، تناضح عكسي، لا تناصح فكري.
بالأمس كنا رعاة للتنوير، واليوم رعاة للبقر، كنا دعاة وأئمة مصلحين، واليوم متسلقين ودخلاء ومتسولين، بالأمس كنا الأفغاني ومحمد عبده والمراغي والغزالي وشلتوت، واليوم أصبحنا ثوبًا تحت “الركبة” ولحية حتى الصدر، وتجريم وتحريم ورفض لأي حوار، إتجار بالمظهر وليس إتجار مع الله عز وجل، تهويل في التدين وتهوين في الدين، مغالاة في الحدود ومواساة لمن يضل ولو كره الكارهون.
بالأمس كان طه حسين في ملكوته التنويري، وصومعته الإجبارية، وعزلته المفروضة بحكم طبائع الأشياء، وكان العقاد في صالونه الأدبي ومي زيادة في طقسها المثير، وشعراء أبوللو الذين يتقول “البعض” عليهم بوصف ظالم مكنونه باطل، وثنائيات الفكر المستنير بين العقاد وشعراء الخمسينيات، صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، طه حسين والأزهر الشريف، محمد مندور والمناهضين، فؤاد زكريا وقواعده الإلزامية، شعراء يخرجون من كل حركة تحت آباط الزمن، جيل بعد جيل، وجماعة بعد جماعة، وشرك بالتقليد الأعمى، وتكفير ما لا يمكن تكفيره.
اشتباك بين من يعلمون ومن لا يعلمون، وليس بين من يجهلون ومن يجهلون، كل شيء يتغير، فلا السبعينيات وما قبلها بأجيال وما بعدها بمراحل قد استقرت على حال، ولا التسعينيات التي يروح لها موتورون قد أخذت حقها من التعاطي والفحص ومحاربة الجهل والخجل.
معارك على الفضائيات بين “تكوين واللاتكوين”، بين من اختاروا “خالف تُعرف” لكي تمتلئ الخزائن والجيوب، وهؤلاء الذين “وقعوا في الفخ” ومضوا على هدى مشاهداتهم المحدودة، ليخرج من خلف الستار مخلوقات غريبة، لا هم قوم “أفاتار”، ولا هم الذين هبطوا من السماء على رأس أيزنهاور، ولا هم يأجوج ومأجوج الذين يُروج لهم عن طريق فئة ضلت وكأنهم على بعد عشرات الكيلومترات من الهدف الأسمى منذ بدء الخليقة.
البعض في دولة عربية يدعون بأن فريقًا منهم يجتمع يوميًا بالمهدي المنتظر “حفيد نبينا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى السلام”، الذي سيأتي في آخر الزمان ليهدي الله به البشرية جمعاء، ويدعون على الإمام بالباطل، وعلى دعوته الجليلة بالإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وكأننا في نهاية العالم نتشدق بسدرة منتهى، ويوم حساب، وجنات تجري من تحتها الأنهار، أو نار الله الموقدة التي تشعل الأفئدة لكل من ضل، وكل من تعالى على الله عز وجل.
الفكر لم يعد فكرًا بعد أن أصبح تأويلاً لجهالة، طول لسان وسفالة، والثقافة تسلم مفاتيحها لغير مثقفين، وغير عالمين، وغير فاهمين لطبيعة المثقف ودوره في خلق حالة خاصة تُعين المجتمع على همومه، وترفع الكتلة الحرجة فيه إلى عنان السماء.
الزعيم الهندي نهرو كسب الرهان عندما وضع أمله الكبير في المثقفين قائلاً بأنهم لا يمثلون سوى 10% من المجتمع الناهض العريض، وأنهم رغم الفقر المدقع، والتحديات والكوارث، وسوء المنقلب، فإنهم سوف يكونون عند حسن الظن لو تمت رعايتهم ودعمهم والأخذ بأيديهم، فإنهم يستطيعون رفع الكتلة الحرجة للمجتمع الهندي الذي كان يعادل 90% من إجمالي 500 مليون نسمة.
وبالفعل ربح نهرو الرهان، ونجحت النخب المتفكرة في رعاية ورفع الكتلة المجتمعية الحرجة بالدولة الناهضة، وها نحن اليوم نشاهد الهند وهي أكبر قوة سكانية في العالم وهي تعتلي كل عروش التقدم والقوة والاعتماد على النفس والتنمية التكنولوجية الفارقة مع الصين.
أما نحن، فلم نراهن على المثقف، لكننا قيدناه، أنهكناه، قلمنا أظافره، وجلدناه كلما حاول التفكير، وقتلناه كلما ضبطناه في نومته الأبدية وهو يحلم.