أحمد فرحات يكتب : وصية
أحترم الفكر عامة، والفكر الأنيق منه، الفكر الداعي إلى إعمال العقل، الفكر الحر.
ومن الفكر الحر قول عبد الحميد بن يحيي الكاتب: خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا. حيث جعل المرأة معنى، والرجل لفظا. يتساءل الغذامي: وفي هذا الوضع هل بيد المرأة أن تكتب وتمارس اللغة واللفظ الفحل وتظل مع هذا محتفظة بأنوثتها أم أنه يلزمها أن تسترجل لكي تكتب وتمارس لغة الرجل؟ فالرجل ينصح المرأة:
خفِّي.. فما أنتِ بمعذوره
ولا على نصحك مشكوره
أذاك.. كم يصدعُ قلبي به!
وإنّما قــلــبي قـــاروره
في كل شيء أنت يا هذه
مغمومةٌ بي غير مسروره
أيتها المرأة لا تقلقي
من قبل أن تستعملي الصوره
والمرأة تتلقى النصح من مئات السنين، وظلت صامتة، لم تبح، لكنها عندما باحت توقف الزمن عن الدوران، ومالت الأرض ببوحها.. فقالت الشاعرة(هبة عبد الوهاب) قصيدة أراها من عيون الشعر العربي:
أقسمتُ عليكَ
أن لا تُلقِ بعد رحيلي
في سلّةِ حجرةِ مكتبتكَ أوجاعًا مرتْ
أن لا تنزع أستارًا
ـ شهدتْ رحلتَنا في إسرائِكَ وعروجي
عن شُباكِ سريري
أن لا تعطِ للباعةِ
منديلي .. معطفَ أحزاني ..
جوّالي.. قارورةَ عطري
بالثمنِ البخسِ
وأن تتركَ أشياءَكَ تذكـرُ هذا النّصَّ
تُرتّلُ أحزانًا تشتاقُ إلَىّ
أن لا تمح من ذاكرة الأشياء ببيتكَ
إيقاعَ الخطوةِ من قدمي فوقَ العتباتِ الثكلى
حين الخوفِ.. وحين الفرحِ.. وحين الحزنِ
لكي تفسحَ دربًا للأخرى
فى هذا الركنِ المنسيّ
أن لا تكسرَ فنجاني
لا تمسحْ بصماتِ القلبِ المجهدِ
عن كاساتِ الذكرى
أعدُكْ ..
سأُسافرُ دونَ ضجيجٍ .. يُقلقُ
ساعدني أن يبقى لي
ركنٌ في هذا البيتِ
لكي تأنسَ جدرانٌ كم جادتْ بالحبِ علىّ
توصيه أن يحتفظ بالأشياء الصغيرة التي شهدت ميلاد الحب الدافئ بينهما، وأن يترفق بالأركان الخاصة، ألا يعبث بما بقي من ذكريات. وهنا تبلغ الشاعرة ذروة الحدث الدرامي.. فعندما تذكر امرأة أخرى فإنها تصعد بك لذروة الحدث والانفعال والتماهي مع الأشياء والموجودات.
استثمرت الشاعرة هبة عبد الوهاب طاقتها الفنية في تجسيد النص كما لو كنتَ تشاهد أحداثه وفصوله، فجنحت إلى سرد التفاصيل عن طريق حشد مفردات الحياة اليومية، والفضاء الكوني المحيط بالتجربة، لعلها تظفر بما يمكن أن تمتلكه بوجدانها المعنوي توجسا من رحليها الذي أعلنت عنه، وهو إحساس مرير صوره المتنبي في شعره:
أَشَدُّ الغَمِّ عِندي في سُرورٍ تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ اِنتِقالا
أدى ذكر التفاصيل الدقيقة إلى الوقوع في الإطناب والابتعاد غالبا عن لغة التكثيف والتركيز المعتمدة في لغة الشعر ، لكن ليس كل نص يجنح إلى التكثيف؛ فالتكثيف عنصر مهم في التجربة الشعرية ويعد إقصاؤه إقصاء لميزة كبيرة، ولا يعني ذلك أن الإطناب عيب، ولكن في نصنا هذا لجأت الشاعرة إلى سرد تفاصيل كثيرة وأطنبت، ولها في ذلك حق وميزة تميزها عن استحقاق. فالموقف هنا موقف تذكير بذكريات، وذكر عهود، وإعلان رحيل، وفي العهود والذكرى يحلو الإطناب ويكون أمكن من الإيجاز. وتكرير المواقف لا الألفاظ له دلالة نفسية عميقة، فالشاعرة تعتمد الصورة وبتر زوائد الألفاظ، وصورها المكرورة هنا تنبع من نفس أهلكتها الذكرى، وهي صور مستقاة من بيئة عاطفية حزينة مشحونة بالألم.
إقرأ المزيد