أحمد فرحات يكتب: الشعراء النقاد

ثمة صلة حقيقية بين الإبداع والنقد في آداب الغرب، وفي آدابنا العربي أيضا فهناك قدامى النقاد في الأدب العربي لم يكونوا من الشعراء، وأنّ قدامى الشعراء لم يخلقوا نقداً، لكن هذه الظاهرة أخذت بالتنامي والتزايد في أدبنا العربي المعاصر لكثرة ما فيه من تجريب.

أديبنا اليوم مضطر إلى الخلق من ناحية وإلى الدفاع عما يخلق من ناحية أخرى، ولن يسعفه النقاد الأكاديميون إلاّ فيما ندر؛ لأنهم على الأكثر مختلفون عن آرائه أو غير متعاطفين مع محاولاته، وهكذا أصبحت حاجة المبدع إلى تبرير عمله فضيلة فكرية ينتعش بها الأدبويزدهر.

الكثير من أعلام النقد في الأدب الإنكليزي هم من أعلام الشعر والنثر أيضاً، من مثل شكسبير، وفيليب سدني، والكسندر بوب، وجون كيتس، وشلي، وكولروج، وماثيو آرنولد، وازرا باوند، واليوت وغيرهم ممن يشكلون أمثالاً ظاهرةً على الجمع بين النقد والشعر.

وفي أدبنا العربي نجد البحتري وأبا تمام وابن المعتز صاحب كتاب البديع، ومختصر طبقات الشعراء، وأبا العلاء المعري صاحب رسالة الغفران، وذكرى حبيب، وعبث الوليد، ومعجز أحمد، وأبا نواس الذي تطاول على عمود الشعر في خمرياته الشهيرة:

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند،

واشرب على الورد، من حمراء كالورد

كأساً، إذا انحدرت من حلق شاربها،

أجدته حمرتها في العين والخد

فالخمر ياقوتة، والكأس لؤلؤة،

في كف جارية ممشوقة القدّ،

تسقيك من طرفها خمراً، ومن يدها

خمراً، فما لك من سكرين من بدّ.

ولعل من الظواهر اللافتة في عصرنا الحديث، ميل عدد من الشعراء المعاصرين للإسهام في الكتابة النقدية، وقد تجلّت هذه الظاهرة في أعمال عدد من الشعراء العرب المعاصرين ممن لاقت أعمالهم الشعرية ذيوعاً وانتشاراً على المستويين العربي والعالمي، ومنهم نازك الملائكة، ونزار قباني، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، وعبد الوهاب البياتي، وجبرا إبراهيم جبرا..  وغيرهم.

ومن الشعراء النقاد ممن أعرف د. سعد مصلوح، له ديوان شعر خطوات على الأعرف،د. علاء عبد الهادي، له عدة دواوين شعرية إيكاروس، حليب لرماد، سيرة الماء، وكتاب نقدي الشعرية المسرحية المعاصرة، حول اتجاهات ما بعد الحداثة في العرض المسرحي،وكتاب النوع النووي، نحو مدخل توحيدي إلى حقل الشعريات المقارنة، أ.محمود حسن، له عدة أعمال نقدية وشعرية منها العباسة،حطموا جمود الشعر، د. عبد الحكم العلامي، له حواف الممشى، القناع والشعر في المشهد الراهن، د. عايدي علي جمعة، له تحليل الخطاب قراءة جديدة في شعرنا القديم، وديوان شمس، وضياع ماء البئر، ..

ونحن لا ننكر على هؤلاء الشعراء الجمع بين الشعر والنقد معا، لكننا نهيب بمن يتصدى للنقد بأن يمتلك ذوقا أدبيا، والذوق الأدبي ما هو إلا راسب من رواسب العقل الخفية، وهو شرط مهم للناقد والشاعر معا؛ لأنه لا يصح وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدى الغير إلا إذا علّل بأسباب عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما تحس به وإلا أصبح ما نقول ادعاء كاذبا.

إذًا فالذوق مَلَكَةٌ وليست مجرد حكم على عمل أدبي بأنه جيد أو رديء. يقول ابن سلام: «قال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك.» فقال له: «إذا أخذت أنت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟.

معنى ذلك أن الذوق الأدبي يستند إلى التعليل والتفسير فلا نقول إن هذه اللوحة الفنية جميلة أو رديئة إلا بتعليل أو توضيح أو تفسير كأن نكتب على اللوحة ما يفيد ذلك، أو أن نقول عن القصيدة سبب اندهاشنا بها،وبذلك يكون الحكم مقيدا بتعليل.

ونحن في هذا نوضح أن النقاد نوعان: نوع يمتلك موهبة الإبداع والنقد معا، ونوع احترف النقد احترافا واطلع على عشرات بل مئات الكتب في مجاله.