الموسيقار محمد عبد الوهاب: وقوفي على المسرح لأول مرة انتقل بي من عهد الأمل و التمني إلى عهد النضج الفني

نشرت مجلة الموعد في أحد أعدادها حديثاً للموسيقار عبد الوهاب يروي فيه قصة وقوفه على المسرح أمام أميرة الطرب السيدة منيرة المهدية .. وكيف أنه ـ وهو الذى طالما خشى التمثيل ـ أثبت أنه ممثل عن جدارة كما كان ملحن بامتياز.

وكان ذالك بعنوان “حندس يمتحدني وكيلو باترا تسقط فوقي”

وجاء نص الحديث كالتالي:

قلت فى الحلقة السابقة أن السيدة منيرة المهدية عرضت على أن أقوم بتلحين رواياتها وأن أمثل أدوار البطولة أمامها على المسرح، وأنني خشيت من الظهور أمام سلطانة الطرب فى ذلك الوقت، واستشرت شوقى فى الآمر فنصحنى بالقبول.

وكانت فكرة شوقى في أننى أن فشلت فسيكون عزائي أنني فشلت أمام أعظم مطربة كم الجائر أن يفشل أمامها أقوى المطربين.

وإذا نجحت فسيكون نجاحي مضاعفا لهذا السبب نفسة وتوكلت على الله، وقررت أن أقدم على القيام بهذه التجربة و أعترف أنني بدأت التدريب وأنا أصنع يدي على بطني من الخوف.

فقد كانت فكرة القيام بتمثيل أدوار البطولة على المسرح تثير الفزع في نفسي وكان اتفاقي مع منيرة بأن أقوم بتلحين الروايات إلى جانب ظهوري أمامها كمطرب وممثل.

فكان فشلي ـ لو حدث ـ سيقضي على آمالي في المستقبل قضاء مبرما.

ولكني أقدمت مستهينا بالنتائج وكانت أول رواية ظهرت فيها على المسرح مع منيرة هى رواية ( المظلومة ) وقد أتاني الحظ بفضل الله تعالى، فأصبت من النجاح مالم يخطر ببالي، وكان ذلك من أهم مراحل حياتى الفنية

أنا والجمهور

وأي لزاما علي فى هذا المقام أصنف شعوري وأنا أقطع هذه المرحلة التاريخية فى حياتي، التى انتقلت بي من عهد الأمل و التمني إلى عهد النضج الفني، وفتحت أمامي باب الشهرة على مصراعيه.

وأهم من ذلك كله، علمتني درسا قامت على دعائمه فيما بعد حياتي الفنية وكان الجمهور هو مادة هذا الدرس القيم لقد تعلمت أثناء العمل بفرقة منيرة، ذلك العمل الذى أتاح لى ـ لأول مرة فى حياتي ـ الوقوف موقف المسئولية أمام جمهور ناضج، أن الجمهور هو السلطان الذى يقبض بيدة على مقاليد الحكم فى دنيا الفنون، وهو سلطان قاص لا يرحم.

ولكن بقدر قسوته يكون تقديره و إقباله على العمل الفني الذي يعرض عليه وتعلمت من الجمهور أن العبرة ليست بما يسبق العمل من مقدمات ومراحل إعدادية، ولكن العبرة بنتيجة العمل نفسه.

وأن الجمهور فى المسرح كالزوج الذى لا يهمه كيف تصنع له زوجته طبق الطعام الذى يشتهية بقدر ما يهمه أن يكون الطعام على مزاجه: ومن هذا الدرس عرفت فى أول عهدي بالمسؤولية الفنية كيف أتخير من الألحان ما يرضي مزاج الجمهور وذوقه وحقيقة أني لم أتخلى يوما عن مبادئي ونزعائي سبيل البحث عن الجديد باستمرار، ولكن ذلك الدرس كان ذا فائدة عظمى لي فى كيفية التوفيق بين ما أريده لألحاني وما تجتمع عنده رغبة الجماهير وقد يصعب على الفنان أن يبذل من عصاره نفسه فى سبيل عمل فني لا يصيب حظا من النجاح.

ولكن ما تعلمته من الجمهور جعلنى أوقن بأن العمل الفني تعودت دائما منذ ذلك الحين أن أجعل التفاصيل من نصيب المؤرخين، وأن أعطي النتائج للجماهير.

أول مقال عني

وبعد ظهوري أمام منيرة المهدية فى رواية ( المظلوم) و إفلاتي من الفشل، كتب صديقي الأستاذ محمد التابعي مقالا مطولا فى جريدة ( الأهرام ) على ما أذكر ـ وكان يكتب فيها ( حندس) وقتذاك ـ وقد امتدح فى هذا المقال مواهبي كملحن مجدد ومطرب ذو مستقبل مرموق وبعد ئذ والت الصحف الفنية التى كانت منتشرة فى ذلك الحين، وأذكر منها مجلة ( المسرح )، ثم مجلة ( الناقد ) ومجلة ( الممثل ) و( روزاليوسف ) والتي نشرت أخباري و صوري.

وهنالك شعرت بأنني قطعت مرحلة الهواية والتطلع الى المستقبل، وانتقلت إلى مرحلة الوقوف على سلم الشهرة، وكان شعوري كفنان معرض للنقد من الجمهور والصحافة معا، يشبه شعور من يهم بصعود سلم مرتفع، وعلى كاهله أثقال وأثقال.

كنت أخشى الصحف

و أعترف بأني، كمطرب ناشئ جبلت طفولته على التمثيل بالكبرياء و التشبه بوقار العجائز، كنت أخشى الصحف، لا لنقد قد يوجه إلي على صفحاتها، ولكن لأن أغلب الصحف في ذلك الحين كانت تكتب الكثير مما لا يحسن ذكره عن الفنانين، وكانت حتى دعاياتها لهم من نوع ( الهزار الثقيل ) لقد كانت أخبار هذه الصحف ودعاياتها للفنانين تتناول حياتهم الخاصة فى أدق أسراها وحقيقة أنه لم يكن ثمنة ما أخشى من أن تعرض له أخبار الصحف فى حياتي أو أخلاقي أو فى تصرفاتي ولكن كانت حرية الصحف أقوى من أن يتصدى لها مكذب.

وكانت إساءة استعلالها أسهل من أى شئ أخر، ثم كانت هناك فضلا عن ذلك مودة ( الهزار ) التى كان بعض نقاد ذلك الحين ( بناكفون ) به عبادالله الفنانين، وأنا كما سبق ياسيدي بهزار من هذا النوع ؟ ولكن كان هناك رغم ذلك نقاد لا تنقصهم الرزانة أو النزاهة أو الصراحة، ولم تكن السينما قد ازدهرت وأصبحت إعلاناتها تكتم فى بعض الأحيان أفواه الكثير من الصحف، أو على الأقل تقلل من أهمية النقد لديها.

وكما تعلمت من الجمهور درسا فيما أفادني فى تأدية رسالتي الموسيقية، تعلمت أيضاً من الصحف درساً اخر له قيمته، هو أن شهرة الفنان بمثابة الصك الذى يعطى بموجبه الحق للجمهور والنقاد بأن يضعوه تحت” الميكروسكوب” ليكشفوا عن محاسنه و مساوئه معاً، وأن النقد النزيه الصريح من أهم مقومات الفنان، وأنه يجب ألا يكون النقد مدعاة لكربه، أو أن يكون المديح باعثاً لزهوه، وإنما يجب أن يجعل من الإثنين دافعاً لاستمراره فى الطريق.

عناق في الظلام

ومن الطرائف التى وقعت لي أثناء عملى بفرقة السيدة منيره المهدية وخشيت وقتها من أن تجعلها الصحف مادة “لترقيتها ” ما أذكره فى السطور التالية:

ذات ليلة كنت أقوم بدور مارك أأنطونيو، وكانت السيدة منيرة تقوم بور كليوباترا، وكان أحد مشاهد الرواية يقضي بأن تدخل السيدة كليوباترا على المسرح وتصيح مغنية ” تركت مصر بلادى ..” فيستقبلها مارك _ الذى هو أنا _ بالعناق ودخلت منيرة فعلا وبدأت تغنى ” تركت مصر بلادى ” ، وقبل أن أهم بأخذها بين ذراعى، أطفأ نور المسرح فجأة، وساد ظلام معيق، ولكنني لم آبه لهذا العارض الفجائي، و اندمجت فى دوري، فأقبلت خلال الظلام أتحسس مكان وقوف كليوباترا لأعانقها، وما إن عثرت عليها حتى عانقتها ورحت أغني كما يقتضي دورى بذلك.

وعاد الضوء مرة أخرى فملأ المسرح، وعندئذ وجدت نفسى أعانق ممثلة كانت معنا فى الفرقة واسمها زاهية إبراهيم.

بينما وجدت كليوباترا تقف فى مكان الكومبارس وانقلب المشهد من دراما محزنه، إلى فكاهة أشد حزنا .. لي أنا طبعا !

مائة كيلو … بطرة!

وحدث أيضا فى أثناء تمثيل هذه الرواية بالذات أن وقع حادث طريف جعل المتفرجين يمحون دموع الضحك بدلا من أن يمحوا دموع الحزن !

كان بين مناظر الرواية منظر تموت فيه السيدة كليوباترا _ أطال الله فى عمرها _ وهو منظر الختام المعروف، وقد شاءت إرادة المؤلف أن يكون موت كليوباترا بين ذراعى حبيبها مارك أنطونيو، الذى هو أنا برضه !

وبينما السيدة منيرة فى أوج اندماجها وهى تمثل مشهد الانتحار بين ذراعى، تركت نفسها فجأة وبلا سابق إنذار
وحيث إنه لا داعي للقول بأن السيدة منيرة _ متعها الله بالصحة وطول العمر _ كانت من الوزن الثقيل.

وحيث أنه من تحصيل الحاصل أيضاً أن أذكر أنني كنت وقتها فى وزن الريشة، فلا داعي كذلك لوصف كيفية وقوع كليوباترا المهدية علي ثم سقوطنا معاً على أرض المسرح فى مشهد فكاهي من النوع الذى يضحك الثكالى
وهكذا كان ختام الرواية مسكا كما يقولون !.

 

 

 

 

اقرأ أيضاً..أحمد حسين الطماوي.. حادي قافله النقاد

أدعية دينية رددها فنانين زمان في مناسبات مختلفة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى