أحمد فرحات يكتب : الصمت

الخاتم بجوار المصباح .. الصمت يحل فتعمى الآذان ..في الصمت يتسلل الإصبع.. يضع الخاتم، في صمت أيضا.. يطفأ المصباح، والظلام يعم.. في الظلام أيضا تعمى العيون .. الأرملة وبناتها الثلاث ..والبيت حجرة.. والبداية صمت..

بهذه البداية اللاهثة يبدأ يوسف إدريس قصته”بيت من لحم”، وهي بداية لها مركز ثقل ثقيل (الخاتم-الصمت-العمى)

الخاتم هو حق الملكية، به تزوج الأرملة البيضاء، وبه استحل فيها ما كان محرما قبل ذلك، وعن طريقه يعرفها، يقتات من جسدها.. وبه أحل لنفسه تدنيس مقدساتها، واشترى الأرض والعرض، وأطلق جنوده لتدنيس الأقصى والأدنى..

الصمت هو صمت الحواس والعيون والقلوب والضمير عن نطق الحق ومجابهة الواقع المغتصب، والملتهب، صمت الأذان عن سماع صوت اليقين، الكل يدرك اليقين واغتصاب الأرض ولا ينطق، وإن نطق زالت هيبته وتلاشت صورته..

 

الصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت

وبأن أياما تفوت.. وبأن مرفقنا وهن ..

وبأن ريحا من عفن .. مسّ الحياة

فأصبحت وجميع ما فيها مقيت

 

العمى أن تستطيع أن ترى ولا ترى، ترى الحق ولا تراه، بل تقلبه زيفا، ترى الشوك في الورد وتعمى أن ترى فوقه الندى، العمى- عافاك الله- ليس هو عمى البصر بل البصيرة، عندما ترى أخاك جائعا خائفا يترقب وأنت ترفل في نعم الله وأفضاله، العمى أن تشاهد الأحداث الدامية في بلد عربي قريب ولا تمتعض. “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ” الحج،(46).

العمى عندما لا تفرق بين جسد زوحك وبين أجساد بناتها، عندما لا تفرق بين أنفاسهن وحركاتهن، وتكتفي بالخاتم!

العمى أن يموت فيك ضميرك وأنت تتلو الكتاب المقدس، العمى أن تصمت وكل جوارحك تصرخ صرخة اللذة المدنسة.

العمى أن تفقد اليقين!

وهكذا كانت نهاية القصة التي أثارت الناس وشغلتهم.. نهاية مفتوحة لا حل لها، و”لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ” (60) . سورة النجم.

التوطؤ بالصمت، صمت الأم المكلومة، صمت الشيخ الفقيه، صمت البنات، صمت الشيوخ والعمائم والغُترات صمت العربي والياقات اللامعة،

 

والرجال التي ملأتها الشروخ

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ..

 

..الأنفاس الثلاثة تتعالى، عميقة، حارة، كأنها محمومة، ساخنة، بالصبا تجأر، تتردد، تنقطع، أحلام حرام تقطعها ، أنفاس باضطرابها تتحول إلى فحيح، فحيح كالصهد الذي تنفثه أراض عطشى، والغصة تزداد عمقا واحتباسا. إنها أنفاس جائعات ما تسمع، بكل شحذها لحواسها لا تستطيع أن تفرق بين كومة لحم حي ساخنة مكتومة، وكومة أخرى، كلها جائعة، كلها تصرخ وتئن، وأنينها يتنفس ليس أنفاسا، ربما استغاثات، ربما رجوات، ربما ما هو أكثر.

 

الأرملة وبناتها الثلاث

والبيت حجرة .. والصمت الجديد

والمقرئ الكفيف الذي جاء معه بذلك الصمت، وبالصمت راح يؤكد لنفسه أن شريكه في الفراش على الدوم هي زوجه وحلاله وزلاله وحاملة خاتمه، تتصابى مرة أو تشيخ أو تنعم أو تخشن، ترفع أو تسمن، هذا شأنها وحدها؛ بل هذا شأن المبصرين ومسؤوليتهم وحدهم، هم الذين يملكون نعمة اليقين؛ إذ هم القادرون على التمييز، وأقصى ما يستطيعه هو أن يشك، شك لا يمكن أن يصبح يقينا إلا بنعمة البصر،وما دام محروما منه فسيظل محروما من اليقين؛ إذ هو الأعمى ، وليس على الأعمى حرج، أم على الأعمى حرج؟

فإذا كان العمر لحظات، فإن بعض اللحظات عمر، والجريمة التي ارتكبها الجميع التواطؤ بالصمت، صمت الخزي، والعار، الكل يعلم ويدرك حجم الجريمة، ومداها، وعمقها، ولكنهم صامتون، تماما كما يحدث هناك أمام مرأى ومسمع العالم بأسره، لكنهم صامتون صمت العاجزين…

 

إقرأ المزيد

 

صلاة عيد الأضحى 2024.. طريقة أدائها وعدد تكبيراتها