أحمد فرحات يكتب: موتٌ لذيذ
بالتأكيد –هنا– لا أتناول الموت داخل الحمام اختناقا بالغاز، ولا عندما يسأل أحدهم عن الحب فتجيب إنه موت لذيذ؛ ولا المراد هنا الموت الصغير الذي يتجرد فيه المرء من وثاق الروح ويلج عالم اللذة الدنيوية؛ بل أتناول الموضوع لدى الشعراء وما يصورونه من دلالات لذيذة. والحق أن الموت كما قال أحد الصحابة:حبذا بالموت إن جاء الأجل الموت لذيذ كالعسل.
وقال العقاد: عند الحب حياة يهون من أجلها الموت, وموت تباع من أجله الحياة..
الموت هو الحقيقة الكبرى في الحياة، ولا موت إلا موت المشاعر، والجيوب عندما تكون عاجزة عن تلبية احتياجات من تعول، ووقوفك عاجزا أمام رغبات النفس واشتهائها لملذات الحياة.
فقد كان المهلبي يقاسي ضعف حاله وفقره، ويعاني ما يعاني من شظف العيش، ورقة الحال، فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له؛ إذ لقي في سفره نصباً، واشتهى اللحم، فلم يقدر على ثمنه، فقال ارتجالاً:
ألا موتٌ يباعُ فأشتريه فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذُ الطعم يأتي يخلّصني من العيش الكريه
إذا أبصرتُ قبراً من بعيد وددتُ لو آنني ممّا يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ تصدّق بالوفاة على أخيه
(تأمل قوله: موت لذيذ يخلصه من فقره ومعاناته في كد الحياة وشقائها)
فترفق صديقه له، وأشفق عليه، فاشترى له بدرهم واحد لحماً، فأسكن به رغبته في اللحم، .. ودار الزمان دورته، وتبدل الحال، بعد أن ضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة فقال:
رقّ الزمان لفاقتي ورثى لطول تحرّقي
وأنالني ما أرتجى وأجار مما أتّقي
فلأصفحنْ عمّا أتا ه من الذنوب السبّق
حتى جنايته بما فعل المشيب بمفرقي
ووقع الرفيق الذي اشترى له اللحم تحت كلكل من كلاكل الدهر، ثقل عليه بركه، وهاضه عركه، فقصد حضرته، وتوصل إلى إيصال رسالة إلى صديقه بعد أن أصبح وزيرا، تتضمن أبياتاً منها:
ألا قل للوزير فدته نفسي مقال مذكّر ما قد نسيهٍ
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ألا موتٌ يباع فأشتريه؟
فلما نظر فيها تذكَّرَهُ، وهزّته أريحية الكرم، للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم ووقّع في رقعته “(أي كتب إليه رسالة)وذكر قول الله تعلى:” مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) البقرة.
ثم دعا به وخلع عليه، وقلده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه.
ومازلنا مع “الموت اللذيذ”.. فعندما شاعت الموسيقا وانتشرالغناء والشعر في ربوع الأندلس أثناء حكم المسلمين، ودّع المعتضد بن عباد الحياة على عزف الموسيقا، وصوت الشعر؛ إذ أرسل- وهو على فراش الموت- للصقلي المغني، فأجلسه وأنسه، وأمره بالغناء جاعلاً ما يبتدئ غناءه به فألاً في أمره، وقد استشعر انقراض ملكه وحلول هلكه فغنى:
نَطْوي اللَّيالِي عِلْمَاً أن سَتَطوِينا |
|
فشَعشِعِيها بماءِ المُزنِ واسقِينا |
وتَوِّجي بكؤوسِ الراحِ أيديَنا |
|
فإِنما خُلقَت للرَّاحِ أيدينا |
قامت تَهُزُّ قَواماً ناعماً سَرَقت |
|
شَمائلَ البانِ من أعطافِه لِينا
|
قد ملَّكَتنا زِمامَ العَيشِ صافيةً |
|
لو فاتَنا المُلكُ راحَت عنه تُسلِينا |
لمّا رأيتُ عُيونَ الدهرِ تَلحَظُنا |
|
شَزْراً تيقَّنتُ أنَّ الدَّهر يُردينا
|
وهكذا مات المعتضد على أنغام الموسيقا وصوت الطرب وسماع العزف، فمات ميتة لذيذة. كما ودعت الفنانة صباح الحياة على أنغام الموسيقا والطرب لتموت ميتة (لذيذة)!