أحمد فرحات يكتب : الشاعر الحديث

 

ظل الشاعر المعاصر متأرجحا بين ذاته وذات العصر، فتارة يميل إلى الذات الداخلية المأزومة، وتارة أخرى يجنح إلى ذات العصر وروحه، فجاء شعره معبرا عن حالة التوتر والقلق اللتين تصيبان الذات جراء ما يتراءى أمامها من محن تؤجج حفيظة الذات الداخلية، وتنحو بها نحو الشعر الذاتي وربما الوجداني فتظهر تلك الذات ثائرة تارة، ومتوترة قلقة تارة أخرى، ولذا لا نعدم انكشاف الذاتين معا في هيئة شعر مأزوم متوتر ينم عن تشطي الذات وتماهيها في الأشياء من حولها. ومن ثم يمكننا القبض على سمات الشاعر الثائر في هذه الأبيات ذات النبرة عالية الصوت فيقول أ. زينهم البدوي:

 

ما في الأوائل والأواخر مثل احتفائك بالمآثر

يا نفحة الرحمن في زمن العجائب والنوادر

أنت المضحي بالنفيس وليس يعبأ بالمخاطر

تمضي إلى العلياء لا يثنيك إبطاء المحاذر

لم تلق بالا للمغانم أو حسابات الخسائر

يا صاحب الشرف الرفيع ومنبع الشيم النواضر

إن المتأمل في هذه الأبيات يلحظ بجلاء عذابات الذات الداخلية المأزومة، ويؤكد من خلال التعبير عن مكانة الشاعر واهتمامه بالقيم المتوارثة عن الأجداد، فنزع إلى الوصف الخارجي للآخر(زمن العجائب والنوادر-إبطاء المحاذر-المغانم- حسابات الخسائر) في مقابل(احتفاء بالماثر-نفحة الرحمن-المضحي بالنفيس-تمضي إلى العلياء-صاحب الشرف الرفيع-منبع الشيم النواضر)هذا الوصف الخارجي أشبه ما يكون بأحكام عامة لم تخضع لتأمل ذاتي، فوقف عائقا أمام تفقد الذات الداخلية واكتفى بالنقد الصادق والصارخ معا في آن واحد،وأعلن عن انهزامه أمام الآخر الذي تسلق مجدا زائفا على أكتاف الشرفاء.

 

الشاعر المعاصر روح ذائبة في ملكوت الله، ونفس شاردة في الطبيعة الحية، تتجلى في ذاته ما تتجلى في الطبيعة الإنسانية، وله ما في الوجود من خصائص وسمات، وطبيعة البشر الحب، فهو سنة كونية، وظاهرة طبيعية، مثلها من الظاهر الأخرى كالمطر، والرياح، والحر، والبرد، .. وسرعان ما تحولت الغصة لعقدة، فاستوى لديه الحب والجنس، وتاهت مع الروح النفس، وأصبح الحب كله متشابها.. فالغياب حضور، والموت حياة، والجنة نار، والزحام سكون، والسكون زحام، ومن هنا اجتمعت كل المتناقضات وتوطدت، فخلقت جوا من العلاقات المتناقضة نتيجة النزعة الفرويدية البادية على سطح الرقعة الشعرية المعاصرة برمتها. واستنادا إلى هذه النزعة النفسية كان حتما أن يولد البديل الموضوعي للمرأة، وهو القصيدة.

 

فلم تعد المرأة هنا امرأة حقيقية بقدر كونها قصيدة شعر، فامتزج الشعر بالمرأة، والمرأة بالشعر، وتجلت الظاهرة في الديوان كله بشكل لافت. تأمل هذا التداخل بين المرأة والقصيدة في هذا المقطع من قصيدة”حضور” لأشرف عبد الفتاح:

 

ألوذ بالحرف الأخير

لكي يفصِّدَ رِبقةً قد عافها

عرقوب أسئلة الولادة والحضور

الحرفُ نور

أقتفي لعُمَان موتي

أو ولادتي الوشيكة

أبتدي

فتسوخ مني الرأس

في رمل التساؤل:

هل كانت عُمانُ أحنَّ من عيني

أم أن سُلطانَ القصيدة

قد أبدلته الريحُ

في عينيك-

سلطان الذهبْ

ومسألة التعبير بالمرأة على أنها قصيدة والعكس أعتقد أنها تيمة قديمة؛ فمنذ نشرت مجلة الرسالة المصرية في عددها 568 قصيدة بعنوان”إلى زائرة” للشاعر بشر فارس ومطلعها:

 

لو كنتِ ناصعةَ الجبينْ هيهات تنفضني الزيارةْ

ما روعةُ اللفظ المبينْ السحرُ من وَعْي العِبَارةْ

 

وقد أحدثت هذه القصيدة دويا كبيرا في الوسط الثقافي العربي، بسبب التحدي الذي أعلنته المجلة لمن يشرح ويحلل هذه القصيدة، وأن من يقدر على ذلك فله خمسة جنيهات مصرية، كمكافأة له، وكان المبلغ مغريا عندئذ، والقصيدة تمازج بين القصيدة والمرأة ممازجة مخاتلة مراوغة، ومنذ ذلك الحين والشعراء والنقاد مولعون بهذا التمازج المحفز للقريض وللنقد معا.

 

إقرأ المزيد

 

تفسير حلم سقوط الأسنان والامساك بها