لقد كان من حكمة الله تعالى أن يرسل رساله إلى الناس ليبشروهم وينذروهم ، حتى لا يكون لناس على الله حجة بعد الرسل، وليبينوا لهم طريق الحق والضلال، فلا يعيش الناس فى العماية والجهل،
واختيار الرسل لم يكن بصلاح حال إنسان، أو بعبادته أو بغير ذلك من الأعمال التى يتقرب بها لله عز وجل، وإنما كان اختيار الرسل محض فضل من الله تعالى، وكان الرجل الذي يختاره الله تعالى لحمل رسالة يصنعه الله تعالى لنفسه، ويكون فى خَلقه كاملا، فلا يعيبه شئ فى خلقه، وفى خُلقه يربيه الله تعالى على عينه، ويؤدبه الله فيحسن تأديبه.
وفى حياة كل نبى ما لو نظرنا فيها وجدنا هذه التربية ظاهرة شاخصة تدل على نفسها، وفى قصة موسى عليه السلام العبرة والعظة أكثر وضوحا لنا، وذلك لأن الله تعالى ذكره قص علينا من قصته الكثير
فقد ذكر الله تعالى فى أول سورة القصص بعض مظالم فرعون (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ) هذه مشكلة ثم هذه إرادة الله، فماذا يكون بعدها؟!
( .وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ…) فهذا الرضيع الذى يحكى الله تعالى عنه، هو من تكون على يديه تحقيق مراد الله تعالى، ومعلوم أن الأنبياء تبعث على رأس الأربعين عامًا، إلا بعض من استثنى منهم، فوعد الله الذى يريد له أن يتحقق، سيتحقق بعد أربعين عاما.
لكن قبل هذا لابد أن تعرف كيف كانت تلك الحياة لبنى إسرائيل، كانت حياة عبودية وذل ومهانة، يتصرف بهم وفيهم فرعون كيف يشاء، مع مجتمع يرى أن ما يُفعل بهؤلاء الناس لا ضير فيه، فقد بلغت الآلة الإعلامية مبلغها فى شيطنة طائفة من الناس، فآمنوا بها وصدقوها، وصاروا من خلف تلك السلطة عونا على هذه الفئة.
فهل يمكن أن ينشأ فى ذلك الجو رجل يقف فى وجه طاغية مثل فرعون؟
لأجل ذلك ولحكمة يعلمها الله تعالى اختار الله لنبيه موسى أن يتربى فى بيت فرعون، مبالغا فى النكاية بفرعون الذى ادعى الألوهية، فيتربى قاتله فى بيته ويعيش عيشة الملوك، مع ما فيها من عزة النفس وقوتها والشجاعة والصفات التى تكون فى القائد، وكان من حكمة الله تعالى أن ألا يحرم أمه منه، فيرتضع من أمه غذائة البدنى والروحى، ويرتضع منها ميراث أجداده من الأنبياء، فلا تطغيه التربية فى بيت فرعون، ولا يستعبد كما استُبعد بنوا إسرائيل، ولا ينسى ميراث النبوة، فينشأ مكتمل النمو العقلي والعاطفى والوجدانى، فيكون ذلك حاله حتى يكتمل بنيانه الجسمى والعقلى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) وإلى ذلك التاريخ كان موسى عليه السلام يتقلب مرة فى قصر فرعون، ثم ينقلب إلى أهله من بنى إسرائيل، مع ما ألقى الله عليه من المحبة، فكان لا يراه أحد إلا أحبه، فيرى كيف يعيش الفرعون فى قصره وكيف يحكم، وكيف يباشر شؤون أهل مصر، وفى ذلك يتعلم سياسة الناس.
ثم يرى فى الجانب الآخر كيف يُستعبد بنوا إسرائيل، والظلم الواقع عليه، وتقسيم الناس إلى سادة وعبيد، فيرفض ذلك كله.
وفى تلك المرحلة كلها، لم يكن يستطع موسى عليه السلام – مع ما له من الحظوة عند فرعون والأسرة الحاكمة- أن يغير كثيرا من واقع ذلك المجتمع الذى يعيش معاناة أهله، وذلك لأن الظلم لا يميز بين قوم وقوم، الجميع مظلوم، لكن بدرجات متفاوتة، فلا أهل مصر يعيشون فى جو من العدل ولا بنوا إسرائيل، وهذا من طبيعة الظلم