وزير الشؤون الدينية التونسي: المشاركون في مؤتمر الإفتاء قادرون على نحت كلمة سواء جديرة برفع تحديات الألفية الثالثة

قال الدكتور إبراهيم الشائبي، وزير الشؤون الدينية – الجمهورية التونسية: اتساقًا مع الإيمان الراسخ لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم بضرورة انخراط المؤسسات الدينية عمومًا والإفتائية على وجه الخصوص في رفع التحديات التي أضحت قدرنا في هذا الزمان، لا مناص من أن نشارك جميعًا في هذه المواجهة الحتمية، التي من شأنها أن تهيئ التصورات الكفيلة بنشر قيم الحق العدل والأمن والسلام وحفظ السكينة في نفوس الأفراد وانعكاسها على المجتمعات وثمراتها الطيبة على الأوطان والأمة.

وإن تهيئة مؤتمر بهذا المستوى ليجعل الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم قمينةً بأن تكون الهيكل التجميعي والفضاء التنسيقي والمرجع العلمي لمؤسسات الإفتاء الشرعي في العالم الإسلامي.

جاء ذلك خلال كلمة وزير الشؤون الدينية بتونس، في فعاليات جلسة الوفود الرسمية بالمؤتمر العالمي الثامن لدار الإفتاء المصرية، المنعقد تحت عنوان “الفتوى وتحديات الألفية الثالثة”، مشيرًا إلى أنه على يقين بأن ما سيقدمه الشيوخ الفضلاء المشاركون في فعاليات هذا المؤتمر من أبحاث جادة وما سيثيرونه من مناقشات هامة، لكفيلة بتحديد المناطات وبناء طرائق المواجهة، ولقادرة على نحت كلمة سواء جديرة برفع تحديات الألفية الثالثة بكل صورها الفكرية والأخلاقية والاقتصادية دون إغفال الأبعاد الإلكترونية وما يستدعيه التعامل معها من مقاربات أخلاقية وقيمية مناهضة لخطاب الكراهية داحضة للتطرف وحاضنة للسلم المجتمعي داعمة لآفاقه ضامنة لاستمراره حريصة على ديمومته راسمة لوجهته محددة لبوصلته.

وأضاف: إن المؤتمر فرصة عظيمة للمشرفين على المؤسسات الدينية والإفتائية على اختلاف مذاهبهم وتنوع مدارسهم للتباحث والتثاقف والتضايف في القضايا المشتركة، بما يُسهم في بلورة فتاوى معاصرة وخطاب ديني مستنير يتماهى مع العصر، قادر على مجابهة تحديات الألفية الثالثة، والتأسيس لعلاقة علمية تبادلية بين المشاركين في هذا المؤتمر بما يثمر فهمًا أعمق ورؤية أرحب للقضايا الراهنة.

وتابع: بغية الإفادة من أطيب ثمرات تلك الاجتهادات الهادفة والمعارف القائمة ينعقد هذا اللقاء العلمي في مستوى عُلمائي، وإنني على يقين بأن أشغاله، وقد اجتمع لها صفوة المفتين وخيرة الخبراء، ستسفر بإذن الله عن نتائج هامة وتوصيات جادة، وسيخرج بمقترحات عميقة محفزة للمُضي قُدمًا بالفُتيا نحو تحقيق متطلبات الواقع وحُسن استشراف المستقبل، وهو ما تصبو إليه المؤسسات الدينية والإفتائية في العالم الإسلامي، ضمن رؤية تعتز بالهوية وتجذر المواطن في قيمه الإسلامية عقيدة وفكرًا.. وفلسفة وفقهًا.. واجتهادًا وتجديدًا.

 

لكن ضمن مدرسة مقاصدية تؤهله للمشاركة في خدمة أمته ومجتمعه بغرس مبادئ الوسطية والتسامح ونشر معاني التيسير ورفع العنت.. كل ذلك من أجل غد أفضل وعالم أجمل يُعلي من قيم التعايش والوجدان المتشارك الذي لا يصغي لخطاب الكراهية ولا يضيق بالمستفتي واحتياجاته المختلفة… فعندما نصنع الذهنية الإفتائية الخصبة نكون بحق قادرين على هندسة المستقبل ورفع تحديات الألفية، حينها فقط نكون واثقين بأننا أوفياء لشعار مؤتمرنا هذا: “نحو فتوى مواجِهة للتحديات مواكِبة للمستجدات”.

 

كما أشار إلى أن هذا الطرح يستمد أهميته من منزلة الفتوى ومكانة المتصدين لها في حياة المسلمين، فقد لقيت الفُتيا من الاهتمام والخدمة والعناية ما لم يلقه غيرها من الموضوعات الشرعية، وما كثرة المصنفات فيها وتعدد أبوابها إلا برهان على خطورتها وقوة حضورها في حياة المسلمين علمائهم وعامتهم بوصفهم طرفَي العملية الإفتائية (مفتٍ/ مستفتٍ)، فضلًا عن أن الشغف بأمر الفتوى قد بلغ عند المتأخرين حد الاختلاف في أفضلية المادة التي ستكتب بها مدادًا أم حبرًا، خشيةً على نصها من أن يُمحى بالحك، وتكلموا حتى في وصف الرقعة التي تكتب عليها الفتوى.

وأوضح أن المكتبة الإسلامية تزخر بكتب نفيسة أشبعت “الفتوى” بحثًا موسوعيًّا عميقًا ودقيقًا، وعالجت مباحثها في مختلف جوانبها وصورها وجزئياتها…وذلك في مستواها النظري فقط دون الحديث عن الكتب الجامعة للفتاوى العملية، ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬إذ لا خلاف بين المسلمين عالميهم وعامييهم في أن الإفتاء أمرٌ عظيم الأهمية شديد الحساسية، وأن من يتصدى له جليل المكانة جسيم الأمانة ثقيل المسؤولية، كيف لا وهو توقيع بالنيابة عن الله، يقول النووي: “اعْلَمْ أَن الْإِفْتَاءَ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَبِيرُ الْمَوْقِعِ كَثِيرُ الْفَضْلِ لِأَن الْمُفْتِيَ وَارِثُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه مُعَرضٌ لِلْخَطَأِ وَلِهَذَا قَالُوا الْمُفْتِي مُوقِعٌ عَنْ اللهِ تَعَالَى، وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: “العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كَيْفَ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ”.

ولفت النظر إلى أن ذلك المنحى أكده ابن القيم في إشارة رمزية لجلالة وظيفة المفتي المتمثلة في التوقيع عن الله ورسوله قائلًا: “فَخَطَرُ الْمُفْتِي عَظِيمٌ، فَإِنهُ مُوَقعٌ عَنْ اللهِ وَرَسُولِهِ، زَاعِمٌ أَن اللهَ أَمَرَ بِكَذَا وَحَرمَ كَذَا أَوْ أَوْجَبَ كَذَا”، ومن ثم لا يخفى عن جليل مقامكم أنه وضع في الإفتاء مصنفًا جامعًا سماه: “إعلام الموقعين عن رب العالمين” وهذا الكتاب معدود من أمهات الكتب المعتنية بمسألة الإفتاء لما حواه من تفصيلات وتأصيلات، وهو خير ما كُتب في تأصيل الإفتاء وَمَا يَتَعَلقُ بِه مِنَ الْمَسَائِلِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، فهو المنهل والعمدة لكل ما كُتب بعده في الغرض. وقال فيه: “وَأَولُ مَنْ قَامَ بِهَذَا الْمَنْصِبِ الشرِيفِ سَيدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتقِينَ، وَخَاتَمُ النبِيينَ، عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَسَفِيرُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ؛ فَكَانَ يُفْتِي عَنْ اللهِ بِوَحْيِهِ الْمُبِينِ”.

وتطرق وزير الشؤون الإسلامية في كلمته إلى نقاط الأهمية التي يضعها المؤتمر للمتغيرات والمستجدات والاشتباك مع التحديات بوصفها محركًا يزيح الجمود والركود والتسطح عن الفتوى وينزع بها نحو ديمومة الحراك والمور والتموج، ودليلًا قاطعًا على صلاحية شريعة الإسلام لكل زمان ومكان، وبرهانًا ساطعًا على سريان روح الاجتهاد ونفاذ جوهر التجديد عند المفتين، وردًّا علميًّا عمليًّا على أصحاب المنزع الإقصائي الداعي لاجتثاث ثنائية الفعل الاستفتائي والإفتائي من حياة الناس.

وأضاف: رغم أن الفتيا قد لقيت من الاهتمام والخدمة والعناية ما لم يلقه غيرها من الموضوعات الشرعية، وأن المكتبة الإسلامية زاخرة بكتب نفيسة للقدامى والمعاصرين، إلا أن رسالة هذا المؤتمر وأهدافه هي أعمق ترتيبًا للجزئيات وأدق فرزًا للمُتداخِلات وأكثر انفتاحًا على المستجدات وأكبر استيعابًا للمتغيرات وأتم استعدادًا لمواجهة التحديات، ولعل تلك التحديات المتشعبة قد أضحت من أَوْلى ما ينبغي استحضاره في ذهن المفتي المعاصر، لا سيما أن العصر الذي نحن فيه أضحى مثقلًا بالمحدثات مليئًا بالمستجدات كثير التموجات غزير الطفرات، فلا يستقيم أن يقابل بفتاوى تمكن منها التقليد حتى أصبحت في صد لكل تجديد رابضة في دائرة الموروثات لم تبرحها بعد، فأضحت عاجزة عن فهم واقع المجتمعات المسلمة.

في إطار متصل أكد وزير الشؤون الإسلامية التونسي في كلمته، أن الاكتفاء مثلًا بالمتغيرات الأربعة الكبرى [الزمان + المكان + الحال + العرف] التي درج السابقون على إدراج كل جديد في خانتها، قد أغرقنا في منطق الكليات والعموميات، وبات تصورًا شموليًّا قاصرًا على الإقلاع بفتاوينا نحو الالتحام بالناس، ما لم تنفتح الذهنية الإفتائية على متغيرات جزئية تفصيلية بل ومجهرية أحيانًا، تحتاج منا إلى أن نسلط الضوء عليها لفهم الأسباب المباشرة لتغير الفتوى وعرضها بطريقة جديدة وبلورتها بوضوح نظريًّا وتنويع الأمثلة عليها عمليًّا.

 

وحتى يقترن العلم بالعمل، يغدو ضروريًّا انتقاء نماذج من أهم الفتاوى التي تؤكد أثر ضروب تلكم المتغيرات في ذهنية المفتين، واتخاذها كعينات واقعية فاقعة ونماذج تطبيقية ناصعة، تبرهن أن الذهنية الإفتائية بسعة أفقها وبُعد نظرها وتوالد سوانحها لم تضق يوما بمستجَد، وما اجتماعنا اليوم إلا تجلية لحقيقة حيوية وديناميكية الذهنية الإفتائية وتفتحها.

ودعوة لبعض الذهنيات التي لم تحركها تحديات الألفية الثالثة أن تتخلص من التحجر وتتحرر من الانغلاق وتلتحق بركب المراجعات.

وتابع: لقد بات لزاما علينا أن نتساءل: هل فتاوى اليوم تستجيب لنداء المستجدات أم لا؟ فحين تهتز السواكن وتتحرك الأفكار وتثور الأسئلة نعتبر أن ما نبتغيه من هذا المؤتمر قد بدأ يتحقق.. فبالنسبة لأُناس مثلنا عاشوا حتى رأوا نعجةً مستنسخة وجوالًا ينقل الصوت والصورة بلمسة خفيفة على شاشته، لم يعودوا يجدون ارتواءً لظمئهم الفقهي في فتاوى ركنت لتكرار ما حذقته من منوال قديم لا يفي بحاجة المستفتي المعاصر.

وفي ختام كلمته أعرب الدكتور إبراهيم الشائبي، عن سعادته بالمشاركة في فعاليات المؤتمر، مؤكدًا أن الاتجاه نحو فتوى مواجِهة للتحديات مواكِبة للمستجدات، لا يُنال إلا بالتسلح بالاعتدال والسماحة ورفع الحرج ونبذ الغلو والتطرف، وإحياء ميراثنا العلمي والثقافي وحماية مرجعيتنا الوسطية لأنها ركن ركين وأساس مكين ودرع متين في حماية الأمة.

 

 

اقرأ أيضاً..مهندسات “الأهلية” يشاركن في برنامج بذور من أجل المستقبل لشركة هواوي في قطر

مفتي لبنان: الاختلاف بين الشعوب والقبائل، والتنوع في الثقافات والديانات واللغات، أَمر حتمي بديهي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى