أحمد فرحات يكتب :وهم النقد

 

إن أشد ما يواجه النص الأدبي حاليا هو انشغال غير المختصين بالنقد الأدبي بعلوم الأدب وتفرغهم من مجال علمهم الأصلي، بل هجره مطلقا، والتقاط أطراف النص وقشوره، دون الولوج إلى جوهره وعمقه. موهمين الأدباء أنهم نقاد. وما هو إلا وهم! ينبغي أن نقرر منذ البدء أن الممارسة النقدية هي ممارسة لغوية في المقام الأول، وأن الأدب عموما لا يمكن أن يكون إلا توسيعا لبعض خصائص اللغة..وأن حقلا أكاديميا بكامله هو الأسلوبية تم إيجاده على الحدود المشتركة للدراسات الأدبية وعلم اللغة؛ فالأدب ليس إلا امتدادا لبعض خصائص اللغة. ومن ثم فقد نشأت علاقة وطيدة بين الدراسات الأدبية والنقدية باللغة.

 

ومن الصعب أن تنحسر المادة النقدية على الجانب اللغوي المعياري، بل لا بد أن تتجاوز الجامد منها، وتنطلق إلى آفاق جمالية تتسم بقدرتها على النفاذ إلى عوالم الخيال والمجاز وتصور الأشياء بطبيعة غير طبيعتها المادية الصلبة. وقد بدا لنا تصور خطير يتمثل في انشغال المهتمين بالحقول اللغوية الجافة للولوج إلى النص الأدبي شعرا ونثرا، وبدت تطغى المادة اللغوية الحامدة على الجمالي بشكل لافت، أو تحويل مسار الدراسة الجمالية إلى دراسة محدودة تنحصر في الالتفاف حول الجمالي، والمجازي، والخيالي بأدوات محدودة جدا، إذ عالم النص الشعري أو الروائي أو القصصي أو المسرحي يتجاوز اللغة المعيارية للنفاذ إلى اللغة السحرية الخيالية التي لا يتحكم فيها اعتدال المنطق اللغوي المعروف لدى علماء اللغة.

 

ومن هنا فقد غدت الدراسات النقدية القائمة على الجانب اللغوي فحسب دراسات عقيمة، حيث تغولت فيها عناصر غير جمالية طغت على سطح الرقعة النقدية فأصابتها بالجفاف والنضوب. وربما يعزو ذلك إلى أن بعض الأساتذة المختصين بالنحو العربي يتركون مجالهم وهجره والارتماء في أحضان النصوص الشعرية محللين وشارحين ومدللين على إمكانية التناول بأدواتهم التي لم تعد صالحة وحدها لسبر النص وكشف أسراره، ومن ثم توجيه طلاب الدراسات العليا في قسمي النحو وعلم اللغة إلى تناول المجال النقدي الذي حرموا هم أنفسهم منه بفعل التكالب وراء الكرسي والمنصب الذي عين فيه. إننا نؤمن إيمانا صادقا بالطاقات الجمالية للغة الشعرية، وليست اللغة المعيارية، فاللغة الشعرية قادرة على فك أسرار النص من المجازات والإيحاءات الثرية التي يتشكل النص منها كالحالة النفسية، والسياق العام الذي نشأ فيه ذلك النص الذي أدى إلى التمرد على الشق النحوي الجاف.