أحمد فرحات يكتب :واجب النفاذ

 

يلج د. طارق الزيات  عالمه الروائي الساحر من باب مملكة السرد، والسرد عالم مفعم بالسحر والخيال والإحساس بالمسؤولية تجاه واقعه المعيش. في الرواية يمكن أن تقول شيئا ذا قيمة، عكس الشعر، ذلك الباب الملكي للذات، القابع في الأنا، يكون الشاعر فيها مترددا بين صعود الأنا لأعلى مكان، وهبوطه لأدني درجة، وبينهما تتجلى الذت.

يثير الواقع وما فيه من أحداث قضيايا لا متناهية، ربما تغضب من جرائها، وربما تثور، أو تتمرد عليه. ومن القضايا التي تثير حفيظة المبدعين أن الإنسان المسالم في معيشته وحياته يجد نفسه متورطا في جرائم قد تودي بحياته، وحياة من يعول. لقد أصبحنا نعيش بلا وعي بما يدور حولنا، أو يحاك بشأننا. مسالمة المرء غدت من النعم التي يجب أن يحمد الله عليها.

أجاد الزيات صنع رواية مستوحاة من خبراته العملية، فجعل مسرح أحداثها موزعا بين أقسام الشرطة، ومديرية الأمن، وغرفة العمليات، ومكتب المحاماة، وشارع مراد. ونادرا ما لجأ إلى غرفة المعيشة، أوحديقة

 

الفيلا، أو مطعم لأسماك. ومن هنا اتخذ المكان ببنيته المعهودة عند المتلقين، فكلنا يدرك هذه الأمكنة، وربما تعامل معها بنفسه، بغية قضاء أمر ما، أو ما شابه ذلك. ولذا لم يغص في أغوار البنية المكانية، ولم يرهق الرواية وصفا للأماكن بل كان يشير إليها إشارة سريعة، لكنها تفجر كثيرا من الطاقات لمعرفتنا المسبقة بشارع مراد مثلا،  أو قسم الشرطة، أو عيادة الطبيب. فالإشارة لا العبارة كانت تقنية فنية وظفها الزيات في البنية المكانية.

 

وكالأواني المستطرقة إذا غابت صفة من صفات العمل الفني عوضنا بغيرها، وكانت أليق من غيرها. لذا تعين على الراوي إقامة الحوار، أتقنه وأفاض في نسجه ونسغه، على مساحة الرقعة الروائية برمتها. ولا أبالغ إذا قلت إن الدكتور الزيات استبدل بالكتلة السردية النصية حوارا شاملا جميع شخصياته، مبديا مرونة تامة في تمييز الحدث الروائي عبر هذا الحوار المتنامي، لدرجة أنك تستشعر وأنت تقرأ أن هذا العمل أعد كسيناريو لفيلم سينمائي، لأنه صنعه بمهارة وحرفية عالية. ومن خلال ذلك الحوار استطاع الزيات أن ينشئ توازيا سرديا بين عدة أطراف، جاسر وصفاء من ناحية، جاسر ونور من ناحية أخرى.

 

تنوع الصراع في الرواية بين العاطغة والواجب تارة، وبين المجتمع والسلطة تارة أخرى. تمثلت العاطغة في علاقة الحب القصير بين جاسر وصفاء، ثم جاسر ونور، والدكتور مهدي وابنته صفاء ثم نور من بعدها، وبين نادر وصفاء أيضا. فعاطفة الحب تأججت بين صفاء(المحامية) وجاسر(ضابط الشرطة)، وقدرا تعرضت صفاء لحادث سرقة في الشارع، نقلت على إثره إلى المستشفى، وسافرت للخارج للعلاج، وهناك لفظت أنفاسها الأخيرة. لتقوم نور بتجهيز الجثمان وتكفينه، بمساعدة أبي صفاء الذي نجح السارد في مشاهد بكائية درامية على مستوى عاطفي حاد.

 

عاطغة الحب لم تمنع الأب من التماسك والثبات في بعض المشاهد، ثم الانهيار الانخراط في البكاء إذا خلا بنفسه، لكن الواجب اقتضى أن يتماسك أمام عيون الجميع.

وقع جاسر في صراع قاس بين عاطفته لنور التي تزوجها بمباركة الدكتور مهدي والد صفاء، وعند علم بالتنظيم السري في عملية(واجب النفاذ) بلغ الصراع حدته، وعزم على أمر ما.

غالبت عاطفة الواجب المقدس الصراع بينه وبين الحب، ولم تستطع أن تفصل بينهما، وتشعر أنك أمام شخصيات كلها تمتاز بالنبل والوفاء والإخلاص والمثالية، وكأننا أمام أنبياء وليس أشخاصا عادية، لها صفات الإنسان وطبيعته من خير وشر.

ولم نلحظ صراعا بين جيل سابق وجيل حالي، فالأبناء على خطى والديهم، جاسر ونور وصفاء لم يصعوا صراعا قويا بينهم وبين آبائهم، ولكن كانت هناك حكمة الآباء ينقلونها في غير عنف أو فرض وصاية على الأبناء. كما أننا لم نلحظ صراعا طبقيا بين الغنى والفقر إلا بما تفرضه الأحداث كما في حكاية راوية التي لجأت إلى جاسر ليجد لها عملا شريفا.

إذا فالصراع القوي في الرواية كان بين العاطفة والواجب المقدس، فقالت نور معلنة بلوغ الصراغ أَوَجه:

“تستطيع يا جاسر أن تبلغ عني ولو فعلت هذا سأظل أحبك حتى يلتف حبل المشنقة حول عنقي، ولا ملامة عليك.

وضع جاسر رأسه بين كفيه ومال بها ناحية الأرض وظل على هذا الحال برهة ثم قال لها:أعطنى ورقة وقلم من المكتب الذي أمامك.

أعطت نور الورقة والقلم إلى جاسر وابتعدت عنه حتى انتهى من الكتابة وقال لها: ارتدي ملابسك، لابد أن ننزل الآن

ارتدت نور ملابسها وهي مرتبكة، ولا تدري إلى ما سيؤول إليه الأمر ونزلا سوياً، واتجه جاسر إلى مكتب الاستقبال وسلمه الورقة وطلب منه أن يرسلها بالفاكس إلى جهتين، ثم التفت إلى نور وقال لها:هيا.

إلى أين يا جاسر.

وقف جاسر وأمسك ساعدها وكشف الحرق وتحسسه وقال:

سنذهب إلى طبيب تجميل يعالج الجرح قبل أن نعود إلى مصر….”

وهذه هي جملة النهاية، نهاية صراع طويل، امتد من أول الرواية إلى نهاية الجملة الأخيرة فيها. وهي نهاية مفتوحة كما ترى، ليذهب القارئ في تأويل الرسالة كل مذهب، وهذه نية مقصودة من السارد الذي فتح النهاية على مصراعيها. ولك أن تتخيل المكتوب في الورقة، أهي بلاغ للنائب العام، أم هي استقالة من العمل الشرطي، أم …؟

وإذا ربطنا بين الصراع القائم بين الشخصيات، ومثاليتهم ونبلهم وانتصارهم للقيم والمبادئ على حساب العاطفة أدركنا بسهولة وجهة الورقة التي كتبها جاسر.

ولعلنا نلاحظ أن الكثرة المطلقة من التفاصيل في الرواية أدت إلى اكتساب عدة عوامل شكلت محيط المكان النفسي باعتباره وعاء للزمان، فقد غذت التفاصيل الدقيقة الشخصيات، ورسمت ملامحها النفسية لتكوين صورة كلية تحدد تخوم المكان ملعب الأحداث. ومن ثم الشخصيات التي أدت أدوارها في إطاره بحرفية عالية، فقسم الشرطة ومديرية الأمن رسما ملامح شخصية جاسر وأطرتها بأطر معينة من الصعب الانفلات عنها إلى غيرها، وكذلك العيادة الطبية وغرفة العمليات رسما ملامح شخصية الدكتور مهدي وحددت كثيرا من ملامحه النفسية التي بموجبها بدا متماسكا أمام حوادث الدهر وموت ابنته.

 

في إطار منح الشخصية صفاتها المعنوية والحسية والروحية لم يذكر السارد هذه الصفات دفعة واحدة بل كان ينجمها على مراحل وفي مسافات بعيدة على مستوى الرقعة الروائية. يمكننا تطبيق ذلك على شخصية نور ففي ص 125 يقول:

وقفت نور مذهولة، ضاعت الكلمات من شفتيها، لا صوت ولا نحيب، فقط دموع تنهال من عينيها ونظرات زائغة لا تعرف أين تستقر، صمود مهدي يرعبها ويزيد حزنها وخوفها، حاولت أن تكتم كل آه تعتمل في صدرها إجلالاً لهذا الشموخ الذي يتحدى الموت ويتحدى القهر ويتحدى الظلم … مهدي اختار حزناً مهيباً يليق بصفاء.

في هذه الفقرة صور الزيات شخصية نور صامتة، لم تتكلم، ولم تنطق وعبرت بدموعها عن صدمتها فيما رأت من جرح صديقة عمرها صفاء، وفي هذا الصمت بلاغة تغني عن النطق والولولة لأن الصمت أبلغ بيانا، وأقوى تعبيرا.

وفي ص 204 يقول السارد:

دخلت نور غرفة الاستقبال وهي ترتدي كنزة زهرية اللون، وجوب طويلة من التويد السكري، وترتدي حجاباً من ذات لون الكنزة، بدت نور على بساطة ملابسها في منتهى الجمال، ولم تكن غريبة على أي من الحاضرين فقد التقوها أكثر من مرة ويعرفونها جيدا، فسلمت عليهم جميعاً وجلست إلى جوار مهدي.

تأمل هنا ذلك الوصف الحسي لنور وملابسها، حتى بدا جمالها طبيعيا من غير تكلف. وإذا أضفنا إلى وصف ملابس الفرح وصفا آخر ص 22

نوربيضاء ذات وجه بيضاوي، وعينان واسعتان، وشعر كستنائي، تتميز بالطول، وتناسق القوام، فهي سباحة أوليمبية وسبق لها أن نالت الميدالية الفضية في دورة ألعاب البحر المتوسط، والدها أمين شاكر يعمل مهندسا استشاريا وصاحب سمعة مهنية ممتازة.

وبناء على ما تقدم فقد وظف السارد أوصاف الشخصية عبر مسافات غير متساوية من الرواية، تارة يعطي ملمحا حسيا، وتارة ملمحا معنويا، وبينهما يكتشف القارئ دلالات الشخصية النفسية والحسية، وهذا ليمنح مساحة أكبر للحوار.

أولى النقاد المعاصرون أهمية كبيرة للراوي في العمل الروائي، ويمكننا أن نحدد نوع الراوي ووظيفته في “واجب النفاذ” فهو راو محايد لم يتدخل في صنع الأحداث، ولم يكشف عن هويته، بل ظل مختفيا خلف الشخصيات يرى ويسمع ويتحرك بحرية ومرونة تامة بين شخصياته، وأحيانا كان يوظف الراوي المشارك الذي يروي من قلب الأحداث وهو أحد الفاعلين لها، تجلى ذلك في شهادة الجناة في الحوادث التي تعرضت لها صفاء. ويسمى أيضا الراوي الشاهد. وهو الراوي الذي يحكي الذكريات التي مرت في الماضي، وكان مشاركا فيها وشاهدا عليها، كما حدث في الفصل الأخير عندما تداعت اعترافات نادر ونور وعم حمزة ومدام راوية ومدام أمينة في مهمة”واجب النفاذ”. “ومن ثم كانت دراسة الراوي ضرورة ؛ لأنه من أوضح العناصر في القصص العربية القديمة والحديثة‘ ولأنه المدخل الحقيقي لدراسة السرد، والمفتاح المناسب لفهم النص”

ونحن في سياق تحديد الراوي يجب أن نفرق بين الصوت والرؤية  “الراوي إذن ليس هو المؤلف ولا صورة عنه؛ بل هو موقع خيالي وأداة للقول، وهو من خلق المؤلف داخل روايته، والعالم التخييلي للرواية هو بلاشك من إبداع المؤلف الذي يبدع كل ما يتعلق بالرواية”

اختار د. الزيات السرد المتتابع شكلا زمنيا لروايته، واعتمد الشكل التقليدي للرواية أي أنها رواية لها بداية ووسط ونهاية. فلم يبدأ من منتصف الرواية ولا من نهايتها بل انتقى شكل المتتابع المتسلسل. ولم يستخدم الشكل التناوبي بين الشخصيات والأحداث، ولا الشكل المتقطع.

يبقى أن نشير إلى الرؤية السردية وهي رؤية من الخلف، أي أن السارد كان يعرف كل شيء عن الشخصية، ويخبر به المتلقي، من غير تدخل مباشر أو غير مباشر في صنع قرار الشخصية، نحو قوله على لسان نادر ص42

خرج نادر من المكتب وهو مرتبك وقال لنفسه: أنا هنا من أجلك، لولاك لتركت المحاماة، والقانون، ماذا لو رق قلبك قليلاً يا صفاء، ماذا لو شعرت بما أكنه لك..آه لو كنت أملك الشجاعة لقلتها بأعلى صوت .. أحبك.

 

أحمد فرحات ناقد أكاديمي

 

 

مقالات ذات صلة