وجلس الموظف الذى هو أنا، أمام الوزير صاحب المعالى على أيوب، بمكتبة بوزارة المعارف، الضوء خافت لم يكن يسطع فيه إلا نظارة الوزير ثم صلعه أكلت الشعر فى مقدمة الرأس، هذا والنظارة والصلعة والصلعة يلاحقانى فى قسوة ويقظة مثل عدسة الكاميرا.
وقطع الوزير الصمت الخافت الذى يحوطنا، بضحكة لم تكد تطل برأسها، حتى أخلت المكان المسانه:
بأه حضرتك عاوز ترقص ؟
_ لا ابدا !!
_طيب عاوزنى انا اللى أرقص؟
_استغفر الله مقلتش كده
_يعنى مقصود كلامك ان الوزارة تفتح صالحة رقص
_لا تنشئ معهدا لفن الرقص
_ اهو الناس حاتقول بيعملوا رقص
_فيه فارق بين الرقص وفن الرقص
_فاهم
وانتزع النظارة من فوق انفه بحركة سريعة فعلمت أن الوزير يفهم جيدا ما أريد أن أقوله ، ولكنه يتظاهر بعدم الفهم ، لا لسبب ،سوى انه وزير ، ولاننى أتحدث إليه فى موضوع جرئ تقضى السياسة الرشيدة بأن يتظاهر بعدم الفهم ولم يكن امامى الا أن أعيد ما قلته عند أول المقابلة … فذكرت أن الوزارة ، بانشائها معاهد الموسيقى والتمثيل والفنون الزخرفية ، غملت ، لا على الأرتقاء بهذه الفنون فحسب ، بل دفعت عنها احتقار الناس لها .. واجتذبت حسن ظنهم بها …
وان رقص البطن وهو من الرقص المصرى ، ويطلقون عليه من باب التأدب الرقص الشرقى ، وكأن الشرق العربي لا يعرف فى رقصه غير هذا البطن وتلعيب الوسط ، هذا الرقص يجب أن يهذب أو ان يختفى ، والا فان لطخة من الطيبن ستبقى على وجه مصر …
وأن .
فقاطعنى الوزير بحركه سريعة أعادت النظارة الى أنفه :
_ راسك جامدة تتحمل الضرب ؟
وتحسست راسى بيدى فى حركة لا شعورية ..
واستطرد يقول :
_مشروعك دا معناه أن التقاليد تمسك نبوت وتطيح فينا
_ انا فى سنة 1949
_ولو …
ودخل علينا مدير المكتب يستأذن لبعض كبار الموظفين بالمقابلة فأشار اليه الوزير بأن يتمهل قليلا … ثم ألتفت نحوى قائلا :
_اكتب الكلام اللى قلته دلوقتى فى تقرير شامل وهاته واحسست ان جسمى كله يقفز من مكانه وانا اقول “حاضر …”
_ وتضيف كما أن الحكومة التى تعطى رخص لصالات رقص البطن ، يجب أن تهذب هذا الرقص والا تغلق الصالات وتلغى الرقص
ومددت يدى احيي الوزير الذى أنقلب محاميا فى غمضة عين ، وقد لمسنى حماس شديد فتعثرت يدى الأخرى بكومة من الأوراق فوق المكتب . فضحك الوزير وهو يقول :
_يظهر انك تعبان من الحصبة اللى عندك
_انا عييت بالمرض ده وأنا ابن سبع سنين !!
_امال ايه الكرافته الحمرة اللى لابسها والمنديل الاحمر !!
_مسألة قيافة ومزاج … ويمكن أنا لسه صغير ومش حاسس
_تبقى لسه عيان بالحصبة .. حاسب شوية فى آراءك ..
وفهمت المعنى .. أن الوزير يتكلم “بأسلوب الحكيم”!!
الفم الذى لا يشبع
واخذت اكتب تقريرى ، كما طلب الوزير ، وحرصت على ذكر ما أوصانى بذكره ، وانطلق الخيال يبنى قصورا …
تخيلت اليوم الذى أرى فيه الرقص المصرى وقد زادت حروفه الهجائية فى الحركات الراقصة ، واتسع مداه فى التعبير عن مختلف المشاعر ثم أرتقى بتأثير الصناعة الفنية ، مثلما يرتقى نجار “الطبالى” فيصبح نجارا للأثاث الفاخر فى مختلف انواعه وأشكاله ..
ونخيلت قيام رقصات جماعية عدة ، الى جانب الرقص الغردقى الذى يسيطر على الرقص المصرى .. وقيام رقص جماعى معناه ضعف النزعة الفردية وروح القبيلة ، وتغلب النزعة الجماعية وزحف الروح الشعبى .. ومدلول هذا كله أننا بدانا نحس وجودنا كمجموعة ، كشعب ، يفكر ويعمل لفرض واحد وتخيلت قيام رقصات جماعية تترجم عن أفراحنا الشعبية ، وعن عاداتنا ، مواسمنا الزراعية والعمالية … رقصات الموالد ، رقصات جني القطن ، والقمح والبطيخ ، سيد السردين بالسواحل الخ … هذا على أن تتميز كل رقصة بحركاتها وتشكيلاتها تبعا لطبيعة الاقليم ومزاج ناسه ، كما تستخلص هذه الرقصات طابعا نصفه مصرى ، ونصفه الاخر رومبا _ سامبا
والا اعرف لماذا تخيلت تحية كاريوكا وسامية جمال وزينات علوى وغيرهن ممن جعلن للرقص الشرقى عرشا من الطبالى ن، ورعايا من القادرين على ان يستغرقوا فى احلام طويلة وعيونهم مفتحة ؟ وتمنيت ان يكون لهن بنات وحفيدات يعملن للمستقبل وامتد بى الامل الى ابعد من هذا …الى قيام اليالية المصرى .. والامل فم لا يشبع وذراعان يعانقان الحقائق والأوهام .. وغمرتنى نشوة طاغية ، ثم
ثم احسست بساقى تتحركان وتدوران .. واذ بى اقف واحرك اعضاء جسمى تحريكا يفاءجا…
يعبر عما كان يجول فى نفسى ويظهر انه جامح وعنيف … فاتكفات على وجهى وسحت من الالم ولكن
..ولكن بقيت اقدامى مع هذا لرقصات .. فانفجرت ضاحكا ، لاننى تذكرت المثل المعروف ’’يموت الرفا وصباعه بيلعب:
نفاق:
وحرصت أن أكتب تقريرى بأسلوب وردى اللون من الدانتلا اللغوية ، ولم أنس أن ألقى فيه بتحيه حارة الى وزارة المعارف ، فوسقتها بأنها شاطرة الشطار من جميع الوزرات فى كل جديد يعمل على الارتقاء والتطور العام … ثم زدت فى النفاق حبتين ، فذكرت اسم ’’ الملك فاروق ,, مقرونا بلقب ينا سب المقام فقلت انه راعى الفنون:
وحرصت على الا اتحدث بمشروعى هذا إلى أحد، لاتقى شرور أهل التقى والتقاليد، ثم رجال المسرح، الأولون سيجدون فيه مادة لنظم ومهاجمتى باسم مكارم الاخلاق والتقاليد الإسلامية.
كما فعلوا عندما أنشأت المعهد الأول لفن التمشيل عام 1930، والاخرون سيتآمرون، لانهم يكرهون كل من يحاول التجديد أوالتفوق، والمسرح فى مصر ارض خصبة تنمو فيها بذور الحقد والحسد.
وأستدعائى على أيوب بعد أن تسلم تقريرى من طريقى مدير مكتبة.
نفس النطارة التى تلمع، وعين الصلعة التى تضئ، وارتفع هذا كله نحوى عبوسة فى الوجه:
وايه دخل جلالة الملك فى تقريرك ده ؟ وسرعان ما حللت عقدة لسانى قائلا:
ذكرت اسم جلالته من باب البركة، ولمعت عينا الوزير تقدفنى بنظرات قاسية، ولم أجد امامى الا أن تمسك بشعره اخرى فى لحية النفاق ، فأخذت أذكر الالقاب الكثيرة التى اطلقها الناس على جلالته .. فهو العامل الاول ،والازهرى الاول والمصلح الأول، إلى غير ذلك من القاب الاولوية التى كانوا يطلقونها من باب التقرب الى هذه “الجلالة ” التى كانت تغلق البرلمان وتلغى الحياة النيابية بجرة قلم.
وقاطعنى الوزير :
_عايز تقول أن جلالته حايبقى كمان الراقص الأول ؟! وهنا شعرت بأن النفاق قد سقط مغشيا
انثى أمام رجل حر ومهذب ، ربما يتعاطى النفاق مضطرا كما تعاطيته ، وقد يستمع اليه ، ولكنه يضيق به اذا جاوز الحد فينفجر ساخرا منه عبارات غير صريحة تحتمل مختلف التأويل … وهذه صفات الرجل الرصين المهذب فى عصر ما قبل الثورة
وسادنا صمت من عذاب.
ومر بخاطرى كلام للناقد والفيلسوف “فولتير” قاله، ولا شك من باب العزاء لمن يعلمون أنهم ينافقون اضطرارا، ثم هم فى الوقت نفسه يتألمون، ذكرت قولته.
“أن الانسان صنيعة عصره، وقلما يرتفع فوق أخلاق العصر الذى يعيش فيه ” ورفع على أبواب رأسه وما يحمله فوقه ليقول:
_مفهوم ؟
ايوه مفهوم
قلت هذا من غير تفكير ولا وعى، فضحك الوزير :
ايه هو اللى مفهوم؟
اللى معاليك عاوز تقوله والتقت نظراتنا فى وقت واحد، أبتسامة كانت بمثابة صفعة للنفاق والمنافقين، وأن كانت واحدا منهم فى هذا الموقف !!
كنا نغنى ونحلم !!!
وسافرت الى باريس فى صيف العام نفسه 1949 ، وفى بعثة بأسم وزارة المعارف للعمل على تحقيق المشروع، انشاء “معهد للرقص المصرى”.
وتولى الاتصال بينى وبين الأخصائين فى فن الرقص المستشار الثقافى بالسفارة المصرية الأستاذ محمود النحاس الذى يشغل اليوم منصب المراقب العام لمصلحة الفنون الجميلة.
قابلنا مدير اوبرا باريس الذى يتبع له معهد الرقص والباليه ، فأسلمنا بدوره الى كبير أساتذة الرقص “المسبوسيرج ليفار” ووضعنا التخطيط الاول لمعهد القاهرة، ولم يبق الا أن تتولى السفارة المصرية الاجراءات الادارية لابرام العقد وتقدير المكافأة.
كنت أغنى ، ومحمود النحاس بغنى ،نغنى أناشيد السعادة والأمل الكبير ، سيصبح الرقص المصرى فنا، ثم يصير بعد ذلك سجلا للحياة المصرية الحديثة كالادب والمسرح، وفجاة وردت اخبار من القاهرة.
حصل تعديل فى الوزارة، انتقل على ايوب الى وزارة الشئون الاجتماعية ، وحل مكانه فى وزارة المعارف ، وزير جديد اسمه محمد مرسى بدر ..واصبت بنزلة فى رأسى.
وركبتنى المخاوف من مميزات اكثر الوزراء فى المعهد الماضى، أن كل وزير يحل مكان آخر فى وزارته، يكون همه الاول شطب أو تعديل فى أكثر المشاريع التى يكون بداها سلفة الطبيب الذكر، أنهم انصاف ىلهه، ونصف الاله لا يتمم عملا بدأ غيره
وصدق ما تخوفت منه.
جاء أمر بإلغاء مهمتى وزارة المعارف يجب أن تبقى محتفظة بحشمتها وحيائها .فلا تصبح وزارة المعارف والرقص، وقلة الحياء !!
وأخذت الاخبار تصل الينا تباعا الغاء الرقص والحركة الإيقاعيه بجميع مدارس البنات والمعاهد !! الغاء الفساتنين القصيرة الأكمام .. والمفتوحة الصدر !! إلغاء لبس الأحذية من غير جوارب سميكه !! الغاء تثفيف الشعر وتمشيطه إلا بالقدر الذى يحجز البراغيث دون الأنتشار … والرقص!! الغاء استعمال البودرة حتى فى فصل الصيف !! وخشيت أن تمتد حمى الإلغاء الى ” المعهد العالى لفن التمثيل العربى ” الذى كنت اتولى عمادته ، وفيه مادة “الرقص الإيقاعى ” من صميم الدراسة فيه ، غعجلت بالرجوع الى القاهرة
لم أسمع لمقابلة وزير المعارف الجديد ، ولم يطلبنى لمقابلته وحرصت على ألا اشعره بوجود معهد التمثيل .. ولكننى أسرعت الى مقابلة على أيوب بوزارة الشئون ولم أعرف سببا لأن رأيته يرحب بمقابلتى فى بشاشة وايناس ، الا أن الإنسان الأصيل الذى فيه ، الانسان الكبير القلب ، اعظم واقوى من الكثيرين
_البقية فى حياتك يا أستاذ ومتزعلش مفهوم !!ووجدتنى اعيد الكلمة الأخيرة بنفس كسيرة وقد أطرقت برأسى ..ورفعتها لأجد يده تقدم لى سيجارة .. وخيل لى أن اليد والسيجارة ، مثل صاحبهما ،كلها أبتسامات …وانطلق على أيوب يتكلم .. أن التطور قد يتلكأ .. ولكنه حتما يسير ، وأن التقدم لا يسير دائما فى انتظام … هو يقف احيانا ، واحيانا يرجع خطوة الى الوراء ، ولكنه لابد ان يستأنف سيره الى الأمام .. وهو ألان ..
فقاطعته : “فى محطة اجبارية للوقوف ”
_جدع … وبكره يدقو الجرس ويمشى القطار
_ويتم انشاء معهد الرقص على يديك
_سيبك من الكلام الفارغ ده … مفهوم !! ولم ينتظر أن يسمع كلامى ، بل أستأنف يسألنى عما فعلته فى بعثتى بباريس ، فأوقفته على ماأقمت به ، ثم سألنى وماذا أعجبنى بباريس هذه المره ، فانفجرت قائلا :
_ ما أعجب به دائما .. حرية الرأي وحرية العمل … ولو على خطأ ..
فأرسل محدثى ضحكة لطيفة وهو يقول :
_يبقى اللى عمله وزيرك الجديد يستحق اعجابك لأنه يدخل فى باب حرية الرأى والعمل
_أن وزيرى الجديد يخاف من ينابيت الرجعية والتقاليد
_كل انسان ومايخاف منه
الإنسان المهذب
وسادنا صمت فى الظاهر ، لأننى اخذت اعجب من محدثى .. أنه لا يجرح بكلامه أحدا . بل هو يلتمس له الاعذار .. ثم صوته ؟؟ هذا الصوت الوديع النافذ .. أن فيه من الجد قدر مافيه من السخرية ، وفيه من الذكاء قدر مافيه من التغافل ، ومحال أن تعرف منى يستقيم كل عنصر من هذه
، ويبدو عاريا !!أنموذج من الرجل المهذب فى عصر يختلط فيه كل شئ ويتوازى خلف صاحبه ، ويتناقض … بين اباحة رقص هز البطن ومنع استعمال البودرة وارتداء الفساتين القصيرة ! وافقت … لأن محدثى تحرك فى كرسيه مؤذنا بانتهاء المقابلة .. ومددت يدى ، وتماسكت الأيدى مع تبادل الابتسام وادرت ظهرى منصرفا ولكن ..
ولكن ضحكة عالية رنت فى اذنى جعلتنى أستدير نحو مصدرها الوزير على أيوب مغرق فى الضحك وهو يقول :
_ايه اللى حطه فى فمك ؟؟ ورفعت يدى فاذا بى أجد بين أسناى قلمى الحبر ، بدلا من السيجارة التى قدمها لى الوزير !! وهكذا ضاع اول مشروع لانشاء معهد يهذب الرقص المصرى ، ويجعل منه فننا رفيعا ،ضاع فى زحمة استبدال وزير بوزير بفعل النزوات السياسية .. وضاع فى غوغاء الخناقة بين القديم والحديث ، بين الرجعية والتقدم !!
منقول من مجلة الموعد في عددها الصادر عام 1953