أحمد فرحات يكتب: الفراق
قاسية هي الدنيا، فلا هي دار مقام وراحة، ولا هي دار فناء وتعاسة، وبينهما يتردد الإنسان قربا وبعدا من أحبته وربما كانت شدة المحبة سببا في ذهاب الحياء من ماء الوجه. فقد أحب عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد، وتزوجها، أمره والده أن يطلقها، فطلقها برا بوالده، وطاعة لأوامره، وعقوقا لقلبه، لكن محبته لها ازدادت وتجلت في قوله:
لها خُلُق جَزْلٌ ورأي ومنطِقُ وخَلْقٌ مصونٌ في حياءٍ ومُصَدَّقُ
فلم أر مثلي طلّقَ اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تُطَلَّقُ
فسمعه أبو بكر – رضي الله عنه – فرقَّ له، وأمره أن يُراجعها، ففرح حينئذ عبد الله وقال من فوره: أُشهدك أني راجعتها ثم أعتق غلاماً له اسمه (أيمن).
فالابتعاد أحيانا غالب، والمحبة حاصلة، والوفاء قائم.
وإذا ابتعد الإنسان أو فارق أحبته اكتوى بنار الهجر، وأذرف من عينيه الدمع.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تذوبُ فتقطرُ
وفي تقدير العلاقات الإنسانية صعود وهبوط، اقتراب وابتعاد، شوق وغيرة، حب وكره، حياة وموت، فناء وخلود، مد وجزر، ولا بأس أن يصف الشاعر محبوبته بالأعداء؛ لأنها أهانته مرة، فيجزع مع الوفاء بمحبتها؛ فيقول:
أشبهتِ أعدائي فصرتً أحبهم إذ كان حظي منكِ حظي منهمُ
وأهنتِني فأهنتُ نفسي عامدا ما مَنْ يهون عليك ممن أًكرمً
إن كان عندك قد أذلنيَ الهوى فبكل ناحية أًعز وأكرمُ
وكان الفرزدق رجلا فظا، تهابه النساء لفظاظته، ومع ذلك فهو رقيق في بعض الأحيان، يندم بعد فراق نوار زوجته:
وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار
إنها الدنيا والأقدار، تصيب من تشاء منها بنار، وتمتعه ممن تشاء، تدور بالإنسان فيلهو حينا، ويعقل حينا، ولا يجد مأوى له إلا الحزن والصمت. ولكن كيف الصمت لأطفال صغار منعتهم الأقدار رعاية الأم:
ألا من رأى الطّفل المفارق أمّه … بعيد الكرى عيناه تنسكبان؟
رأى كلّ أمٍّ وابنها غير أمّه … يبيتان تحت اللّيل ينتجيان
وبات وحيداً في الفراش تحثّه … بلابل قلبٍ دائم الخفقان
فلا تلحياني إن بكيت فإنما … أداوي بهذا الدّمع ما تريان
إن الأقدار لا ترحم، تغتال الأمنيات، وتفتك بالأحلام، وتنتهك البيوت، وتدق على الأبواب آخذة زوجة من أحضان زوج:
على باب بيتي وقبل السحر على باب بيتي دق القدر
مؤلمة هي الأقدار، وقادرة على صنع الأحزان، وارتسام الدموع في الأجفان، بلا سبب، أو بسبب، فهذا عزيز أباظة يتذكر زوجته كلما قام لتناول طعامه، مساء أو نهارا، فيطالع صورتها المعلقة على الجدار فيبكي، وويل للرجل إذا بكى!!
تذكرني بكِ الصورُ التوالي فينشطر الفؤادُ لها انشطارا
إذا قمنا لمائدة مساء وإن قمنا لمائدة نهارا
يطالعنا مكانك وهو خالٍ فتبتدر الدموع لها ابتدارا
نحيط به ونوسعه حنينا وتقديسا لذكرك وادّكارا
ويقول عنها:
فقدتك زين في دمع اليتامى وقد فقدوا بك الكهف الحفيا
فقدتك زوجة وأخا وأختا وأمّا برّة وأبا وخِدنا