نورودوم سيهانوك.. حكاية ملك تنازل عن العرش من أجل الفن

 

نشرت مجلة الكواكب في عددها الصادر يوم ٧ يونيو عام ١٩٥٥ موضوعًا عن نورودوم سيهانوك يحكى تفاصيل الرجل صاحب المواهب المتعددة فقالت فيه:

نورودوم الرجل الذي تنطبق عليه هذه الأوصاف جميعها، ملك وممثل ومؤلف وموسيقي ومخرج هو “نورودوم سيهانوك” ملك كمبوديا السابق، الذى تنازل عن العرش لأبيه “نورودوم سوراماريت” والذي عرفته في باندونج، حيث كان يرأس وفد بلاده في المؤتمر الآسيوي الأفريقي.

ولا يتناول حديثي هنا الناحية السياسية من حياة الملك السابق “نوردوم سيهانوك” بل الناحية الفنية فقط
فهذا الملك السابق فنان مرهف الإحساس، متعدد المواهب، متشعب النشاط، يقول إنه لو لم يولد في قصر ملكي، ولو لم تجعل منه الظروف ملكا، لكانت أمنيته الوحيدة أن يصبح ممثلا، وأن يخرج أفلاما عن بلاده.

والحياة في القصور الملكية في كمبوديا مشبعة بالروح الفنية، فالرقص من مستلزمات تلك الحياة، والدين يقضي ـ كما تقضي العادات والتقاليد ـ بأن تقام حلقات الرقص في كل يوم في القصر، وبأن تكون النساء جميعا من الملكة إلى بناتها إلى خادماتها كلهن راقصات.

وللتمثيل أيضا نصيبه في حياة القصور، هناك تمثيل الحوادث التاريخية، وتمثيل الأساطير القومية، وتمثيل المناظر الدينية
في ذلك الجو نشأ نوردوم سيهانوك، وفي تلك البيئة مال إلى الفن وأحبه، وفي أوقات فراغه انصرف إلى التأليف والإخراج
وضع مسرحيات مثلها بنفسه مع رجال حاشيته، ونساء القصر، وفي مقدمة هؤلاء أمه الملكة الوالدة.

ووضع أفلاما أخرجها بنفسه أيضا، واختار موضوعاتها مما يهم بلاده وشعبه
وهو واضع الموسيقى والألحان للمسرحيات والأفلام.

وفي قصر الملكة فرقة لأداء رقص البالية ذات شهره عالمية، وفي هذه في الغرفة التي تشرف عليها أم نوردوم تعمل أيضا شقيقاتها وبناتها اللواتي اجتزن 12 من العمر.

ولكن أروع مسرحية وضع الملك السابق نردوم سيهانوك موضوعها، ورسم مناظرها، واختار ممثليها، وأخرجها إخراجا يدعو إلى الإعجاب، هي مسرحية تنازله عن العرش، فهي قطعة من صميم حياته
نوردوم اليوم ملك بلا تاج، لأنه أعطى التاج لأبيه.

وهو مؤلف وممثل بلا فرقة ولا مسرح، لأنه منصرف عن التأليف والتمثيل إلى الاهتمام بحالة الشعب الذي يريد إسعاده، ورفع كابوس الفقر عنه، ولكنه لا يزال في ريعان العمر.

ويقول: إن حياته السياسية والاجتماعية لن تحول دون عودته يوما من الأيام إلى حياته الفنية.

سألناه: ألا تفكر في العودة إلى العرش الذي تنازلت عنه لأبيك؟
فأجاب الملك السابق: إنني أجلس على عرش القلوب، وهذا أحب إلى نفسي، وإذا خطر لي أن اعتلي عرشا من الخشب المذهب فسيكون ذلك في إحدى المسرحيات التي أفكر في كتاباتها
متحف الشمع.

قرأت في أنباء أوروبا: أن متحف “جريفيه” أعد مجموعة من التماثيل المصنوعة من الشمع للفيف من العظماء والمشاهير في سفينة خاصة تطوف بتلك المجموعة في موانئ الغرب، وفي داخل البلدان باجتياز الأنهار والترع.

فالغربيون يضاعفون إذان اهتمامهم وعنايتهم بمتاحف الشمع، وبعد أن كانوا يكتفون بالمقيم الثابت منها، جعلوا الآن يعدون المتاحف المتنقلة لإقتناعهم بما فيها من فائدة للجمهور وللقائمين بأمرها على السواء.

لمتحف “جريفان” الباريسي فروع الآن في بعض أنحاء فرنسا، ولمتحف مدام “دوسو” بلندن فروع أيضا في براتيون وغيرها من المدن الإنجليزية.

وفي أمريكا عشرات من متاحف الشمع، وكان عندنا في مصر متحف من هذا النوع، أنشأه المرحوم فؤاد عبد الملك بماله وجهوده وعرقه ودمه.

وكان المتحف مفخرة من مفاخر مصر الفنية، ولكن الدوائر الحكومية المسؤولة عن صيانة الفنون وتشجيع الأعمال المتعلقة بها أعرضت عن مساعدة فؤاد عبد الملك، وأبت إلا أن تهدم ما شيد، وتبدد ما جمع، وتزيل من الوجود ذلك المتحف، بل تلك التحفة التي قلنا إنها كانت مفخرة من مفاخر مصر.

ومات صاحب المتحف وفي نفسه حسرة، ولا أريد أن أقول إنه مات من الحسرة
ونحن الآن في عهد كل شيء فيه جديد، أو يتجدد، ومصر منصرفة إلى تجميل نفسها، والفنون أفضل وسائل التجميل، فهل للمشرفين على تشجيعها وصيانتها وتوسيع نطاقها في هذه الأيام، أن يولوا التفاتة من التفاتاتهم لبقايا متحف الشمع التي تركها فؤاد عبد الملك، والتي تتحول شيئا فشيئا إلى حطام؟

ما الذي يمنع إنشاء متحف الشمع من جديد، من بعض مخلفات المتحف القديم، مضافا إليها ما توحي به الثورة من مشاهد ومناظر ومجموعات وأشخاص؟

الشعوب الحية الناهضة تخلد ذكرى عظمائها الأموات بإقامة تماثيل ونصب تذكارية، وتكرم خدام الوطن من الأحياء بوضع تماثيلهم في متاحف الشمع
ومصر أمة حية ناهضة، يجب أن تفعل ما تفعله الأمم الأخرى من هذا القبيل