“زهرة البنفسج”.. قصة قصيرة لـ عبير حسني

اعلنت شمس الصباح يوم جديد في حياتها، وها هي تجلس الي طاولتها المعتادة بشرفة النادي القديم المطل علي البحر الذي طالما شاركها احلامها وأحزانها واحتوي ضعفها ، كم الموج فرح للقائها ، وغادرت بخيالها عالم كم اجادت الهروب منه ؛ حضر اليها الجرسون بابتسامته المعتادة كلما رأها، يحمل فنجان قهوتها.. وبادرها بالتحية قائلا: حضرتك لم تحضري منذ مدة علي غير عادتك، ابتسمت بهدوء وتعللت بظروف عملها وشكرته لاهتمامه فانصرف لتلبية طلبات رواد النادي ..
جلست تراقب طيور النورس ، وامواج البحر تتهادي امامها وترنحت ذكرياتها تغرق ببحرها المتلاطم و…وعاودتها الذكري, حيث تعالت ضحكات ..وحمل النسيم صوت يشدو من بعيد ( فات الميعاد) بصوت الرائعة كوكب الشرق فعاودتها الذكرى عندما نظر اليها وقد اغروقت عيناها بالدموع ..وقال : كنت اعلم انك تسترقين السمع اليها . تبسمت وقالت: انت تعلم كم اعشقها قال: يكفي حزنا ارجوكي، قالت: انت تعلم بإحساسي الذي يسبق الاحداث وكم اعاني منه ..وسافرت عيونها بعيدا جدا ،
وتعال صوت ارتطام الموج بصخور الشاطئ حيث ما تزال تجلس تحتسي قهوتها؛ عاودها صخب واصوات عالية وضحكات تسابق ايامها فقد كانت طفلة جميلة لها تلك العيون الواسعة وشعرها الأسود الناعم ينساب كنهر من حرير ، ولها تلك البشرة الخمرية التي تأسر القلوب.. تتعال الضحكات كلما حضرت الجدة للزيارة ، فقد كانت نبع لا ينضب من الحنان ( اهلا جدتي) …تعالي الي طفلتي الغالية احتوتها الجدة داخل احضانها وكأنها وردة يانعة يرويها بستاني حنون . تناولت الجدة حقيبتها واخرجت منها هذا المنديل القماشي المطرز بشكل انيق ومنمق بتلك الزهور البنفسجية الزاهية ، وقد عطرته بذلك العطر الغريب القوي واعطتها اياه.
قالت: ما هذا العطر الغريب يا جدتي!! قالت الجدة: انه اللافندر حبيبتي قالت : يا انه جميل وغريب ايضا حافظي علي هذا المنديل ..انه سرنا الصغير. فهذا هو عطرك ومصيرك حبيبتي كتلك الزهرة اليانعة علي منديلي، كانت زهرة البنفسج ” كم كانت جميلة” وغادرت الجدة…واسرعت تخفي سرها الصغير بين طيات اسرارها القليلة..
واتي اليها صوت الجرسون ليخرجها من افكارها قائلا: أترغبين فنجانا اخر من القهوة سيدتي؟ تهادت موجة صغيرة مشاغبة امامها وكأنها تدعوها للهو معها قبلما تغادر شاطئ ذكرياتها هيا بنا..
قالت صديقتها ..وقد كان اليوم الاول لها بالجامعة وها هي تسابقها خصلات شعرها الاسود الطويل يداعبه نسيم برئ وتلك العيون بلون القهوة تزداد بهاءا في ضوء الشمس وتلك الغمازة الرقيقة تجذب اليها الانظار كم كانت انيقة في تلك الملابس البسيطة التي ترتديها . وكانت كعادتها تتجاهل تلك النظرات التي تطاردها…وتتجنب اشعال غيرة قريناتها لماذا انتي دائما!! قالت صديقتها.. اجابت : انا ماذا !
قالت الصديقة: منذ الصغر ونحن اصدقاء، ولكن انت دائما من يرغب الجميع في التحدث اليها ..والتقرب لها ، حتي عندما كبرنا كنتي الوحيدة من بيننا التي تتوجه عيون الاساتذة اليها اثناء الدرس ، ورغبتهم الدائمة لسماع تفسيرك للأمور المطروحة ، قالت وقد شعرت بغرابة شديدة لحديث صديقتها وما ذنبي بهذا ..احاول دائما تجنب كل هذا بالتواجد وحدي حتي اتهمني البعض بالغرور؛ اساعد الجميع قدر استطاعتي ولم اتعال يوما علي احد.
قالت صديقتها: احبك حقا ..ولكن بقدر هذا الحب احسدك فانتي كالشمس مهما حاولتي ان تتواري لن تغيبين ..دائما مشرقة حتي في حزنك. وتناهي اليها صوت الهاتف بتلك النغمة المعهودة وجاء الصوت المعتاد..(أنتي فين يامدام ! ) وهنا ارتفع صوت الموج وعلا ضجيجه وكانه يعلن غضبه لرؤية الذي غزا محياها، فقد كان امين اسرارها. وكان ردها المعتاد ( ما زلت اجلس مع صديقتي بالنادي كما تعلم) ؛ وهدأ الموج عندما اغلقت الهاتف وكأنه قط صغير يتمسح اقدام صديقته في حنان ومودة ليقول لها لا تحزني. وعاودتها الذكري.
(صديقتك جميلة) قال لها ..و تذكرت كيف نظرت اليه بطرف خفي وقالت نعم هي جميلة جدا ، هي ايضا معجبة بك كثيرا، ضحك بغرور تمثيلي وقال صدقا تقولين ! قالت : بكل تأكيد قال لها: ولكن ..ألا تغارين! قالت: ولما أغار.. و ممن أغار..هي صديقتي الوحيدة وأنت ..من انت ؛ وخيم الصمت الرهيب وكأنه دهر طويل بلا شمس ولا قمر ، وخنقت أملها الوليد. وهنا سكن روحها شعور دوما ما كرهته فقد صدق حدثها اخيرًا.
وقف طائر النورس علي شرفة النادي يلتقط فتات من الخبر ، نظرت اليه باسمة فقد كان كمن يلتقط عنها بقايا ذكريات لم تعد بحاجة اليها .. هل تعلمين انني رزقت بفتاة ..وقد اطلقت عليها اسمك ..قال لها ، قالت : كم انت جاحد لما وهبتها هذا الاسم ألا تعلم انه يحمل الكثير من الشقاء ؛
كيف هذا ..وأنا اري ابتسامتك العنيدة لا تفارقك فاطلقت ضحكتها المعهودة وكأنها ترغب زيادة عذابه .. نظر اليها وقال ، الزمن لم يمر عليكي عزيزتي وكأنه توقف منذ عشر سنين عن ملاحقتك ، تبسمت في صمت ..فتابع قائلا : هل ما تزالين تقرئين روايات إحسان عبد القدوس وتبكين في نهايتها ؟
هل ما تزالين تكتبن تلك الخواطر الرقيقة ، وأخرج من جيبه تلك القصاصة وبدأ بالقراءة وارتسمت الدهشة علي ملامحها في أبهي صورة كان يتلو عليها حروفها.. قائلا:
( أنا مقلة العيون؟
ولكنك لدموعي وشجني لم تصون
أتذكر لقاءنا الأخير عند بحر الغيوم
بعدما غابت شمس حب ..كنت اظنه
يدوم..أتذكر وشاح أبيض حول عنقي
كان لي كألم المكلوم،
عندما فاضت دموعنا ببحر الظنون
أتذكر عندما تطاير شعري كالمجنون
وغادرت أيامك بعدما غرقت أمالنا
ببحر هادر من الشك ووأدت حلما
كنت اظنه يدوم )؛
ابتسمت بهدوء وقالت وكيف لك ان تحتفظ بتلك القصاصات حتي الان! قال: لما يبق لي الا هي ،هي سلوي الروح في غيابك الذي كان حكما ابديا بالنفي.
وتابع حديثه متجاهل نظراتها التي تحمل ألف سؤال وألف اعتراض.. اراكي ما تزالين تملكين تلك الهالة التي لا تخبو ..هل …وهل…وهل؟؟ اوقفت استرسال حديثه بإشارة من يديها وقالت، نعم ..ونعم…ونعم… وترامي لسمعها شدو كوكب الشرق تغرد ( فات الميعاد) وكأن هذا اخر لقاء جمعها به ، وقد مضي عليه خمس سنوات.
وجاءت طيور النورس تتهافت بقايا ذكرياتها بكل الحاح .. حتي اضطرب البحر على غيرعادته مع تلك الذكريات ، كانت دوما تترك رسالة للبحر حينما تجلس مع نفسها ،وبدأت تكتب أخر رسالة، (همساتي الحائرة تشفق علي قلبك الحنون يا حبيبا ما زلت وحيدا بعالمك المفتون تناثرت أوراق أحلامك كزهرة بعش الصقور أذاب الحبر أصابعك برسم طيفها المجنون، تدمن سكب الصمت بأوردتها تهجر القصائد و تسحق كلماتها.
تهرب من عالم الخيال لأطلالها تعلن العصيان وانت أسير أبراجها لا تدري معاناة واحزان سكنت روحها كم أجادت سجن احساس وحرمته قلبها لا يزالون يحسدون نظرة تفيض بعيونها وعبق القهوة كمطر السلوي لصحرائها تمهلوا قليلا حسادها ،مازالت ترضي بأقل قليلها ،لسعادة لم تكن يوما نصيبها لم تعد تملك إلا بقايا روحها ،تمرح أحيانا بين ضلوعها كعصفور صغير يرقص داخل قفصه الذهبي حتي يترنح.
كليلا كسير الجناحين ،رفقا بها.. لم تجف بعد دموعها ،تحكم غلق سجنها
وتستمرئ أشجانها،لم يعد لديها الا أياما سطرت بكل عناد أخر حروفها.)
طوت اوراقها داخل حقيبتها الأنيقة، وتهادت برشاقة وعنفوان في طريقها لخارج النادي القديم ،وكانت العيون تلاحقها بفضولها المعتاد،بين اعجاب وغيرة ،لم تعد تبالي فهي هالة لن تنطفئ. إستقبلها زوجها قائلا ،أين صديقتك كنت أود التعرف إليها.
نظرت إليه نفس النظرة التي أتقنتها بعد مرور عشرون عاما ،فقد عاقبت كبريائها العنيد قائلة : إنها تعلم مدي غيرتك وتحرص دائما علي الانصراف قبل موعد قدومك. لم يكن يعلم انه لن يري تلك الصديقة أبدا لانها غير موجودة ، وأخفت منديل جدتها بحقيبة اسرارها فهو سر حياتها، وانطلق يحيط خصرها بقيده الذهبي وهي تبتسم في سعادة أصبحت تتقنها قدر…الموت.