حسام بدر يكتب: محنة حاج

تبت يد من اغتر بنفسه وتب، عجاب وألف عجب، لن يبقى منه إلا عجب الذنب، يحمل ذنوبا وذنب، ما أغنى عنه حسب ونسب، ومال في دنياه قد اكتسب. اُستميل فمال فكان المآل، ما كان له عليه من سلطان، حين فقد الحصن والأمان، غرور المغرور الأكبر تسلل إلى دمه وولده، ومطعمه وشرابه، إلى هوائه وحوائه ، منذ استكبار سيد الملعونين، لقد امتنع وأبى ألا يكون لغير الله من الساجدين، لم يجب بـ “لبيك” وأشرك عقله في عبادته فلم يكن من الطائعين، أيسجد لمخلوق من طين؟ فأرداه ذلك من علياء إلى أسفل سافلين، حينها أقسم بعزة العزيز ليضلهم أجمعين.

كان يسمع صوتا بين الفينة والأخرى “الطريق يا حاج” – وكأنه ما سمعه، ففي هذا الزحام كان في عقله ركام، انطباعات وذكريات، صور ورواسب وبؤر، في قلبه خفايا من غيوب، في أغوار نفس بها ثقوب وعيوب، نوافذها اليوم مفتوحة، وطباق السموات ممسوحة، ينتهي الظاهر هنا ويطلق الباطن إلى هناك، بعدما تقذف البطن عللها، والقلوب غبارها والدماء درنها.

الجمرات دليل وأمارة، رمز وإشارة، إلى البدء والبداية، معركة لا يهدأ أوارها ولا تضع أوزارها، ساحتها النفس والدماء، سلاحها الاغراء والاغواء؛ وسوسته إلى يوم الدين. خنس وهمزات وسوسة وهمسات، وعد وأمنية، غرور وشرور، كيد خفيف كالحفيف، كوريقة في زمن الخريف ، ينفث كيده في ضعيف، هوى وهواء في نفس من “اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ ” متخبطا للإثم فعلان، نسي لأنه لحم ودم – إنه إنسان ، ففي دمه يسري كبير الجان.

“الطريق يا حاج” وكأنه ما سمعه – نظر إلى أعلى مناجيا: يداك إلهي المبدعة، منها الموجودات منبعثة، بها الحياة في الجسد منتعشة، وبغيرها ركود وجمود بلا حركة، اليد دون عونك معلولة وقدرتها مغلولة، لم يقلع الإمام باب خيبر بقوة يديه ، بل بقوة يديك. اقترب نحو العقبة وفي يده جمرة: لبيك، لبيك، خطواتي إليك، فحط عنه سيئاتي خطيئاتي. ما قدرتي إلا من قدرتك، وإرادتي ما هي إلا كسب من إرادتك.

نادى: يداك فوق يدي ويداي بين يديك، جمرة بيديك عبر يدي رجوما لشيطاني ، ذلك الذي يوما قد أغواني، رجمة تزيل إثما قد ألمني، وأخرى إلى علو تدفعني، دثرني برحمتك زملني بقدرتك، رجوم سبع مني وهي منك، وما رجمتُ إذ رجمتُ ولكن من عليائك لي قد فعلتَ .نظر الجليل الرحيم إليه راضيا: ها هي دماؤك فتية نقية منه، وأنت الآن في منأى قصي عنه، عدتَ إلى فطرتك، كيوم أمك ولدتك، رجعت إلى التجلي الأوّل، إلى عهد الأزَل، وبينك وبين الرجيم عزْل، فلا تكن كالتي نقضت الغزْل. قل: لبيك… “لبيك اللهم لبيك”.

وحي أوحي أنه لن تمـوت نفس حتى تستوفي رزقها، كما قدر لها أزلا رازقهاـ رزق عذب فيه عذاب أو ملح أجاج به شفاء وعلاج، سعادة في شقاء وشقاء في سعادة، فمن المحن منح وفي المنح محن، هبة وسلْب، فقْد وجلْب، والنعمة والملك له، وما بين أيدينا ليس من أيدينا.

قالوا الرزق ما أنتفع به واستمتع معه، وقيل ما ملك وأمتلك، والأمر متاع ما به متعة إلا ظلال، والملك ما ملك منه إلا خيال، وتوهم امتلاكه محال، قالها ذات يوم بعدما أنفق فيها ما أنفق، أنها لن تبيد أبدا، ولم يدرك أنها ستصبح خاوية غدا، حديقة غناء صارت كالقفار، فالأصل تراب، “هو” والنخل والشجر والثمار؛ إنها الحياة في التقاء مائيين خلْق السماء، والوعاء كان حواء ، والنبت بعد وعثاء إنسان خرج من ظلماء، يبحث رزقا يهبط من علياء، وما “هو” و”رزقة” إلا هَشِيمً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ، إنها خليط بين أفراح وأتراح.

حين ترتدي ثيابا كثياب النهاية، يكون النداء والرجاء في مكة قبل الرحيل رزق جميل، البكاء قبل الانتفاء نفع جليل، وشتان شتان بين رزق العرض ورزق الجوهر، فلتُسكب قبل الفناء هناك العبرات، فالمجير سيغفر الذنوب والعثرات، ما أعظمه من رزق، وما أجله من ثمرات.

دموعك هناك من حياء، ولكم في البكاء حياة. غلب البكاء النبي، وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي؛ حب تقي وقلب ندّي، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

تأوه قلب الحاج هامساً: والوجد إذا تنفس، أنفاسه وجداني تتحسس، أغيب عن وعي فأذكر سعْي؛ ذكرى زمان وكل زمان، يأتيه العشق من كل مكان؛ عاشق ومجذوب، فهل أتاك حديث القلوب. سألته خليلته أدمعٌ حين طواف؟ قال لها: سيدي وصحبه حولي أطياف، وألمٌ بي قد ألمّ ؛ سأل نفسه : أيحيا قلبي بعدما رمّ؟ نهره صوت: حين الرضا أرجائه يعُمَ؛ بسط قلبه إلى السماء، ولسانه يلهج بالدعاء: لبيك لبيك، شوقي إليك، توقي بين يديك، كان هنا سيدي وسيد الثقلَيِّن، فأمدد يمينك تعانق الشفتين! سمع قول رب العالمين: “لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين”؛ تهادى إليه صوت أحد المارة: “الطريق ياحاج”!
د. حسام الدين بدر… كلية اللغات والترجمة/ جامعة الأزهر.