في ذكرى رحيله.. حوار نادر للشاعر أمل دنقل

تحل اليوم ذكرى رحيل الشاعر الكبير أمل دنقل المعروف بإسم أمير شعراء مصر الذي ولد سنة   23يونيو  1940، و توفي في 21 مايو 1980 بعد صراع طويل مع المرض، وبهذه المناسبة، يعيد موقع مباشر 24  إعادة نشره أجرته مجلة إبداع في عددها الصادر 1983 حاورته الإعلامية الصحفية اعتماد عبدالعزيز.

إلى نص الحوار

هذا حديث مع شاعرنا الكبير الراحل: أمل دنقل في عصر قل فيه الشعراء الشعراء، وكثر فيه المتشاعرون، وأمة ما يزال قلبها يخفق بالشعر، ومسمعها يهتز له، وفي هذا الحوار الذي أجرى مع أمل، تحدث أمل عن قصائده الأخيرة، وحجب جائزة الدولة التشجيعية عنه، وعن أزمة الثقافة، وغيبه الحلم القومي للنهضة، وانكفاء الإعلام المصري على الماضي.

وتبعيه المثقف المصري لتقلبات السياسة، وغيبة الأصوات الثقافية المتفردة، وتحدث عن شعره، وتهمة الغموض التي توجه إليه، أو المعركة مع الشعر الحديث، وتحدث عن مواقفه من الالتزام، وعن وجه المستقبل كما يراه، وعن ظاهرة كتيبات الماستر الثقافية، وتحدث عن أزمة النقد، وأزمة الإبداع، ولعل هذا الحديث قد كان آخر حديث  أدلى به الشاعر وهو على فراش مرضه الأخير في الغرفة رقم 8.

قرأنا لك واستمعنا في الفترة الأخيرة بـكثر من قصيدة جديدة.. فهل هي تدفق وخصب أدبي جديد أم أنها مجرد نشر  لما سبق وكتب من فترة؟

ـ القصائد التي نشرتها في الفترة الأخيرة كلها قصائد جديدة، كتبتها جميعا في فترة المرض الأخير، بدأت بقصيدة “لمن” التي نشرتها الأهرام، بالإضافة إلى السعودية، وبالقصائد التي نشرتها في المجلات الأدبية، ثم القصيدتان الجديدتان اللتين نشرتها في مجلة الإبداع .

أريد أن أعرف: ما هي الجوائز الأدبية التي حصلت عليها خلال السنوات السابقة؟

في عام 1962 نلت جائزة المجلس الأعلى للآداب والفنون للشعراء الشبان لأقل من 30 عاما، وكنت في ذلك الوقت في الثانية والعشرين من عمري، وبعد ذلك رشحت عام 1972 لتسهيل جائزة لتنال جائزة الدولة التشجيعية، وتدخلت عوامل كثيرة لحجب الجائزة عني وأنا الآن مرشح جائزة الوتس للأدب الإفريقي الدولي، وعموما أنا لا أؤمن كثيرا بمسألة الجوائز وتقديراتها بالنسبه للشعراء والأدباء.

فهناك عوامل كثيرة مختلفة، تتحكم في منحها، وأذكر أن فوزي بالجائزة الأولى كان عن قصيدة عمودية، وكنت أريد أن أحصل على اعتراف رسمي بأن الذين يكتبون الشعر الحديث يستطيعون أيضا كتابة القصيدة العمودية، ردا على الاتهام الشائع حول هذا الموضوع.

تقول هناك عوامل كثيرة تدخلت لحجب الجائزة عنك، ومع أن مثل هذه العوامل لم تعد سرا يخفى على أحد فإنني أفضل أن أسمعها عن منك؟

 

طبعا، سأضرب لك أشهر الأمثلة في ذلك، وهي جائزة نوبل، هذه الجائزة تدخل عوامل سياسية كثيرة في منحها لمختلف الأدباء العالميين، لدرجة أنه لم يحصل عليها حتى الآن أديب عربي، والأمر كذلك، هنا الآن في المجلس الأعلى للثقافة، وأنا عضو في لجنة الشعر فيه، وأشاهد من داخل اللجان: كيف يتم الصراع حول الجوائز؟ وكيف تلعب العلاقات الشخصية ومسأله السن بالذات دورا في منحها؟ وان كنت أعتقد أن التقييم الرسمي هذا: هو عادة ترويج للكاتب أو الشاعر، ولكنه ليس هو الاعتراف الصحيح به، فالاعتراف الصحيح إنما هو اعتراف الجماهير أولا.

هذا ينقلنا إلى التكريم والجوائز غير الرسمية التي حصلت عليها؟

في الحقيقة لم أكن أبحث عن التكريم، ولكن هذا التكريم كان مفاجئا، ففي البداية لم أكن أعتبر نفسي شاعرا بمعنى الكلمة، وإنما كنت أكتب ما أشعر به، ولكن صدى هذا عند الناس، واحتفائهم به، هو الذي جعلني أشعر أنني يمكن أن أقدم في هذا المجال شيئا.

منذ فترة طويلة والجميع يتحدث عن أزمة الثقافة عندنا، ومع ذلك لم يتغير الوضع.. فهل النهوض بالثقافة هو قرار سياسي يجب أن نأخذ عليه الضوء الأخضر من قبل الدولة حتي نبدأ فيه؟

النهوض بالثقافة شأنه شأن أي نهوض آخر في أي ناحية من نواحي المجتمع، ليس قرارا سياسيا أو حكوميا، فالثقافة شأنها شأن أي نشاط آخر في المجتمع، خاصة للمناخ الذي نعيش فيه، وإذا كنا نمر الآن بأزمة ثقافية فهذه الأزمة هي أحد وجوه التدهور في المجتمع الذي نعايشه نحن، سواء كان هذا التدهور ثقافيا أم اجتماعيا، ويتمثل مثلا في الأغاني الهابطة وفي الأمثال وفي الأفلام الهابطة، وفي نسبة توزيع الكتب الهابطة، كل هذه الأشياء هي بعض وجوه التدهور الثقافي الذي نعيش فيه ونعانيه.

وفي تقديري أن المشكلة إذا أردت الاستطراد في هذا الموضوع فإن ثقافتنا لم تعد ثقافة معدية، بمعنى أنها أصبحت تهتم وتتوجه أولا إلى السائح العربي، مثلا الأغاني التي نصوغها، والمسلسلات التلفزيونية، والأفلام والكتب التي نطبعها لنصدرها، أولا للأسواق العربية، والشعراء الذين ينشرون قصائدهم في مجلات النفط والخليج، فالمستوى الحضاري للقارئ المصري لم يعد هو الفيصل في التذوق، بل أصبح هناك توجه آخر نتيجة لتدفق أموال النفط والثراء المفاجئ للدولة العربية، وأصبحت الخدمات الثقافية المصرية توجه لخدمة قارئ غير القارئ المصري.

ما هي في رأيك الوسائل أو الخطوات التي يمكن لو اتبعت الآن أن تخرج بالثقافة من أزمتها هذه؟

الحرية أولا، فكما تعرفين هناك “فيتو” على كثير من الأفكار والاتجاهات في المجتمع، وهي التي تسببت أخيرا فيما سموه بأزمة الشباب، هذا هو الجناح الأول، أما الأمر الثاني لخلق ثقافتنا أو استعادة ما كنا عليه، فيتمثل في خلق حلم قومي حلم وطني في نفوس الشباب والناس.

بمعنى آخر أن الناس مستعدون أن يجوعوا ويعروا من أجل أن يتحقق حلم وطني قومي كبير، ولكنهم في غيبة هذا الحلم ليسوا مستعدين لأن يجوعوا أو يقدموا أي تضحية، بل يكونون مستعدين للتكالب، ما دام هذا التكالب والنهب هو وسيلة الحياة.

حلم وطني.. هل لي أن أطلب منك أن تحدد لي نوعية هذا الحلم أو أن تكلمني عن الحدود التي يدور فيها وحولها؟

 

لا أستطيع أن أبتدع الآن حلما وطنيا، ولكن لأضرب لك مثلا: في هذه الفترة فترة النهضة الأولى في أوائل هذا القرن، كان الحلم الوطني هو مصر المستقلة، مصر المتحررة من الاستعمار والاستبداد، مصر التي تستطيع أن تستوعب الحضارة مثل أوروبا تماما، وفي فترة الخمسينيات والستينيات.

 

كان الحلم هو مصر القوية مصر القائدة للدول العربية التي حولها، لكن في الفترة الأخيرة حدث الانكفاء للحلميين معا: حلم الاستقلال انهار بالعجز في مواجهة الاحتلال الصهيوني، وحلم القيادة العربية انهار بالواقع الاقتصادي الذي يشير إلى أن مصر لا تستطيع الآن أن تقود الأمة العربية.

 

أعتقد أنك حدثتني عن أهمية وجود هذا الحلم القومي وعن اختلافه من فترة لأخرى، ولكنك لم تقل لي: ما نوعية هذا الحلم الذي نحتاجه ليومنا وغدنا، ما تصورك له؟

 

في تقديري، أنه حلم بناء مصر القوية عربية متحررة، تنتمي إلى معسكر التحرر الوطني، ولا تدور في فلك أحد، سواء شرقا أو غربا، وفي نفس الوقت زرع العزة في نفوس المصريين، باعتبارهم الجزء الأكبر من جسم الأمة العربية وطليعة نضال التحرر الإفريقي والآسيوي في العالم الثالث ـ كما يسمونه ـ وركيزة انطلاق الثقافة العربية، والحضارة العربية في عصرها الجديد، وتحقيق الإحساس بالتكافؤ مع شعوب الغرب والشرق الأخرى دون حساسيات، ولا عقد ولا استخذاء.

 

* لا يمكنني أن أصدق أنه طوال السنوات الماضية وبعد كل هذا الذي حدث في الساحة داخليا وخارجيا لم يستطيع هذا الشعب الواعي ـ رغم كل شيء ـ أن يتبنى لنفسه حلما وطنيا، ويعمل على تحقيقه؟

 

الكلام صعب شوية لكن لأنه في الفترة الأخيرة فترة الأحد عشر عاما السابقة، قد حدث انكفاء إلى مصر المصرية، مصر التي تستغني بذاتها وناسها ونفسها عن دورها العربي: وحدث إحياء لأعلام فترة مصر المصرية، مثل: توفيق الحكيم، وحسين فوزي، ويوسف وهبي، وإبراهيم المصري، كل الذين كانوا ينادون بأن مصر مصرية فقط أو مصر التي تنتمي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط.

 

حدث إحياء لهم، ووضعوا من جديد في حجرة الإنعاش، ليصبحوا أعلاما للثقافة الجديدة، برغم أنهم انتهوا وكفوا عن الإبداع نهائيا، وحدث تركيز إعلامي عليهم، مما أدى بالتالي إلى أن يشعر الإنسان المصري بالعقم، لأن مصر بطبيعتها وثقافتها وإسلامها وأبطالها القوميين، هي دولة عربية، فالمصري يعتبر أن بطله الوجداني خالد بن الوليد، وليس أحمس، ببساطة حدث انكفاء إلى الداخل: فلم تؤد السنوات العشر الماضية إلا إلى زيادة الشعور بالعزلة والتقلص.

 أتقصد بمصر المصرية مصر الفرعونية؟

ـ لا، ليست مصر الفرعونية، وإن كانت الفرعونية جزء من هذه الدعوة، ففي البداية كان الإحساس بمصر الملتحقة بأوروبا، مصر التي هي جزء وقطعة من أوروبا، وأن تبحث في قوميتها عن جذورها الفرعونية، فالفرعونية هنا هى نتاج للإحساس بمصر الملتحقة بأوروبا، وأن التعامل مع الغرب خير من التعامل مع الشرق، ومع العرب.

 يحدثنا التاريخ أن أغلب قادة الحركة الوطنية في مصر كانوا في الأصل من رجال الفكر والأدب، ولكننا الآن نجد ظاهرة غريبة من أدبائنا ومفكرينا، وهي: هذا الفصل الحاد بين ما يقدمه من أداب وإبداع، وبين موقفه ورأيه السياسي، أو على الأقل يميعه أو يتراجع ويتخلى عنه، فما السبب؟

الحقيقة أن المثقف أو الأديب لم يفصل بين السياسة وبين الفكر، ولكن منذ 23 يوليو سنة 1952 نشأت فكرة عزل الشعب بكامله عن التفكير، وليس عزل المثقفين فقط، وأصبح هناك الشعار الشهير، وهو الاستعانه بأهل الثقة وليس أهل الخبرة، وذلك ساهم في عزل المثقفين عن دورهم السياسي والاجتماعي، بحيث أصبح المثقفون في النهاية مجرد أحد أجهزة الحكم الثانوية، وأصبحنا نرى كتابا عندما يقولون لحاكم إن مصر عربية يمجدون انتماء مصر العربية، وهؤلاء الكتاب أنفسهم يمجدون عزلة مصر.

عندما يكون شعار الدولة هو مصر المنعزلة، وأصبح عندنا مثقفون يأكلون على جميع الموائد التي تتوالى، دون أن يحسوا بأي غضاضة أو بتأنيب ضمير، فقبل الثورة كانت هناك أحزاب، وبالتالي كان في إمكان طه حسين أن يحتمي بالأحرار الدستوريين، وهو حزب أقلية لكى ينشر إبداعاته، ويحتمي به من غضب الأزهر، وفي نفس الوقت وبعد ذلك ينتقل إلى حزب الوفد ليصبح وزيرا للمعارف، فكان يمكن للكاتب والمثقف أن يحتمي بالأجنحة المختلفة، لكى يحقق ما في رأسه من مشاريع أدبية وثقافية.

مجتمعنا اليوم بعامة ومجتمعنا الأدبي خاصة، أصبح يموج بتنقضات شديدة وغريبة، فأين تجد وترى هذه التناقضات ؟

كما قلت لك، هذا التوجه الراهن، الثقافي لخدمة المتعلم والمثقف غير المصري أولا، ولكن هنا يجب أن نعترف أن كل ظاهرة ثقافية تظهر، هي تعبير عن الفترة التي نعيش فيها، والتي نعيشها، مثلا: ظهور عدوية قد يكون انحطاطا للأغنية المصرية.

ولكنه خير معبر عن الفترة التي ظهر فيها، بمعنى: أن هذا الصوت الذي ليس صوت رجل أو صوت أنثى هو تعبير حقيقي عن العصر الذي كنا نعيش فيه، فنحن لم نستطع أن نكون فيه رجالا ولا أن نكون نساء، لم نستطع أن نكون إيجابيين ولا أن نكون سلبيين، إنما نحن نعيش كما يرسم لنا، ثم ظاهرة عدم ظهور كاتب جديد واحد في الفترة الأخيرة، رغم أن عشرات الكتاب أتيحت لهم فرص ذهبية وعديدة ووفيرة في صفحات الصحف والمجلات.

فرغم زيادة المساحة المخصصة للأدب والثقافة في المجلات والجرائد، إلا أنه لم يستطع كاتب واحد متميز وصاحب صوت متفرد أن يبرز خلال تلك الفترة، ثم ظاهرة اختفاء المجلات الثقافية العميقة، واتساع مساحة الصحافة الأدبية، وما له من دلالة ومعنى، وهو أنه لم يعد التركيز على الثقافة الجادة، وإنما أصبح التركيز على الثقافة اليومية السريعة، هو سنه معدودة، لفترة أيضا.

 قل لي بصراحة: ما هو رأيك الحقيقي في تهمة المباشرة والتقريرية لما يقدم اليوم من شعر حديث؟

ـ لا، إنها لا تلصق بالشعر الحديث، وإنما تلصق بشعري أنا، لأن الشعر الحديث يتهم بالغموض دائما، وأولا لا أرى لهذا الاتهام مكانا في شعري، لأني أتهم بالغموض من جانب أنصار الشعر العمودي، وهذا الاتهام غير صحيح، ثانيا: لأنه إذا كان عدم المباشرة في الشعر يأتي من شيئين هم استخدام الرموز، واستخدام الأساطير، والتعبير بالصورة وأنا لا توجد لي قصيدة إلا وفيها التعبير بالصورة والرموز والأساطير، والذين يقولون هذا القول هم في الحقيقة رافضون لوظيفة الشعر الاجتماعيه والوطنية.

فالشعر والشاعر وظيفة حقيقية اجتماعية يجب أن يؤدياها، وهي وظيفة معارضة الشعر، يجب أن يكون رافضا للواقع دائما حتى ولو كان هذا الدافع جيدا، لأنه يحلم بواقع أفضل منها، فالشاعر يريد دائما أن يحول الواقع إلى حلم، والحلم إلى واقع، وهكذا، وفي فترة التراجع الأخيرة ونتيجة لضغوط كثيرة لجأ كثير من الشعراء إلى الهرب من مواجهة القضية الاجتماعية الحقيقية، وصاروا باسم التجديد، ونتيجة لعدم وضوح قضية معينة في أذهانهم، صاروا يقلدون أدونيس، ويكتبون أشعارا أقل ما يمكن أن يقال فيها: أن القارئ المثقف نفسه لا يستطيع تذوقها، فما بالك بالقارئ العادي.

وإذا كان المقصود هو التغريب والإيهام، وعدم الوضوح، فأنا أعتقد أن هذا شعر مرفوض، لأن الأساس في أي لغة للتعبير الفني هو الإبانة، فالشاعر يكتب بلسان عربي مبين، أى يستطيع أن يصل بالمعنى إلى القارئ الذي أمامه، أما مسأله جمالية الشعر فقط فهذه مقولة أعتقد أنها تصلح للمجتمعات المتقدمة لا لمجتمعات يناضل كل أفرادها للوصول إلى مستوى مقبول من الحياة.

 البعض يقول: إنها أرقى ما يملكه أن يقدم اليوم في الإبداع الشعري، والبعض يصر على أنها حجة العجزة والفاشلين، وربما أكون قد لمستها في إجابتك السابقة، ولكن أريد رأيك الواضح الصريح في قصيدة النثر؟

ـ إذا كان الإيقاع عنصرا هاما جدا من عناصر التوصيل بين الشاعر والقارئ، فلماذا نتخلص بأيدينا من هذا العنصر؟ خاصة إذا عرفنا أن الإيقاع في الشعر بالنسبة للأذن العربية والمجتمع العربي هام جدا، وأنا أرى أن الفيصل في أي لون أدبي هو الوصول للناس، فهل استطاعت قصيدة النثر حتى الآن أن يكون لها جمهور حتى بين المثقفين؟ هل استطاعت أن يكون لها خصائص فنية مستقلة عن القصيدة الحديثة، لا أعتقد أنه فعل ذلك.

أكد كثير من الشعراء والنقاد، أنه لم يعد هناك الآن معركة ضد الشعر الحديث، ولكن الشعر أصبح يتطلب معركة من داخله إلى داخله، لتقضي على التكرار والتقليد، والوقوع في كلاسكية جديدة… فماذا ترى ؟

ـ المقولة صحيحة تماما، فالشعر الحديث لم يعد في معركة مع الشعر العمودي، لسبب بسيط، هو أن الشعر الحديث ووجه بهجوم من أنصار الشعر العمودي، ولكنه استمر ليس بسبب التنظيرات الأدبية، ولكنه استمر بسبب الإبداع الشعري والأدبي فيه والشعر الحديث، فعلا يجب أن يخوض معركة داخل نفسه، حتى لا يقع كلاسيكية جديدة ضد التقليد والتكرار، وهذا الناتج عن سقوط عدد من الشعراء الذين يستهلون كتابة القصيدة أو يلجأون إلى استعارة واقتفاء آثار شعراء آخرين.

أين يوجد لواء الشعر الآن؟ هل عاد إلى مصر أم أنه ما زال هناك في العراق؟

ـ لواء الشعر لا يوجد الآن في مصر، ولا في العراق، ولا سوريا، ولا في أي بلد عربي آخر، فما زال الجيل الذي يسمى بجيل الستينيات وهذه تسمية تجاوزية، مازال هذا الجيل هو الصوت المسموع في كل البلاد العربية، ولم يعد جيل السبعينيات حتى الآن لأن يقدم نماذج وأصواتا شعرية، متميزة في بلد عربي.

ربما كان لقضية تراجع حركة التحرر العربي، وبالتالي انحسار حركة تحرر وتقدم الثقافة العربية في السنوات الأخيرة، تأثيرا على هؤلاء الشعر، فكما قلت لك سابقا أنه لم يعد هناك حلم قومي، فأصبح هناك إنحسار، وهذا أثر على نفسية الشعراء.

 آه.. جميل حقا أن نعود مرة أخرى للكلام عن الحلم القومي، لأني كنت نسيت أن أسألت، لماذا لم يحاول الأدباء والشعراء ـ وتلك مهمتهم، ورسمائهم ـ أن يسموا ويخفقوا هذا الحلم؟

الوحيد الذي كان مسموحا به في الفترة السابقة هو “حلم السلام” وهو حلم إنساني جميل، ولكنه للأسف قدم في صورة جعلته تخلصا أو إنسحابيا من مواجهة الواقع والتقدم والحرية حلم السلام بين البشر هو حلم إنسان عظيم، ولكن لم يستطيع كاتب ولا شاعر عربي حتى الآن أن يقدمه لنا لأنهم مرفوض مسبقا بثوبه الذي قدم لنا فيه.

قلت في إحدى قصائدك، وأنت تتحدث عن أمنيه استعادة سيناء، ترى من يراجعك لي “بالسيف  وبالحيلة” لم أعد تقول في وأشهد سوى هذا تناقضا أو ازدواجيا؟  

ـ بالسيف أو بالحيلة، آه، أي بالقوة أو بالسياسة نعم نسيت ضد استعادة الأرض بالسياسة، أو ما يطلق عليه اسم المفاوضات، والطرق السليمة ولا أحد من العرب الآن حتى أشد العرب تشددا يرفض هذه الفكرة، ولكن لا تصالح الفكرة الأساسية فيها، إلا أنه لا يريد أن يصالح أخاه على دمه هو، أن يرضى بالحياة ويرضى بالملك في سبيل أن يستمر هو، بمعنى أوضح أقايض أرضي بأحلام شعب آخر.

 هل يجب على الشاعر أن يكون منتميا إلى تيارات معينة يحمل الويه الدفاع عنها والتهليل لها؟

ـ أنا مع التزام الشاعر، ولكنني ضد إلزامه، أنا ضد أن يكون الشاعر منتميا إلى حزب أو جماعة سياسية لأن الشاعر ليس بوقا لأحد، هناك تناقض، إذا كانت السياسة فن الممكن فمن، فالشعر هو فن المستحيل، السياسي أبدا يطالب بما يمكن تحقيقه.

أما الشاعر فهو يطالب بما يبدو وكأنه مستحيل التحقيق، ومن هنا فإن الشعراء الذين ينتمون إلى حزب أو تنظيم هم دائما أضعف الشعراء، فالشاعر يجب أن يملك حرية مطلقة كاملة، والتزام الشعر إنما ينبع من ضميره وفكره، هو.

 الملاحظ أن بشعرك كما كبيرا جدًا من الموسيقى، فلماذا لم يغني أو يلحن منه شيء حتى الآن؟

لأنها ليست موسيقى غنائية في حقيقة الأمر، وإنما هي تقوم على استغلال الإيقاعات في اللغة نفسها، فشعري ليس غنائيا، بمعنى أن كمية الأفكار، والفكر فيه أكثر من أن تكون للغناء، فالغناء عادة معنى بسيط مباشر، يغني الحب الذي مات، يتكرر في كلمات وصور مختلفة، ولكن القصيدة الحديثة قصيدة مركبة وذات بناء مركب، وأخذ جزء منها قد يخل بالباقي، صحيح أن هناك مقاطع يمكن أن تغنى.

ولكنني لا أعتقد أن هذا في شعري لأنني لست شاعرا انطباعيا، أي لست شاعرا تنعكس عليه الطبيعة والأشياء، بل العكس، فأنا أعكس ذات الشاعر على الأشياء، وأحاول أن أغير الأشياء، وليست الأشياء هي التي تغيرني.

بعض الشعراء لديهم القدرة على التنبؤ بدرجة تفوق العرف نفسه وأنت كثيرا ما امتددت رؤيتك الشعرية إلى آفاق المستقبل، ما هو القادم إلينا في الآفق البعيد، تراه بشفافية وصوفية الشاعر، ولا نراه نحن؟

مسألة أن الشاعر متنبئ، هذه مسألة ليست صحيحة تماما، وإنما هي فكرة نبعت قديما، حينما كان الشاعر كاهنا أيضا، والكاهن القديم أصلا هو كان هو الفيلسوف المؤرخ والشاعر للقبيلة، ثم أصبحت الفلسفة علما، والتاريخ استقل وأصبح علما، الشاعر لم يصبح كذلك، لأنه يتعلق بالجزء الروحي في الإنسان، ومن هنا يقال: أن الشاعر يستطيع أن يتنبأ، ولكنه ليس تنبؤا، وإنما هو درجة من الوعي بالواقع الذي يحدث حوله، بمعنى أن الشاعر يملك من الوعي بالواقع والالتصاق به ما يمكنه أن يحس باتجاه الأشياء والأحداث.

وليس عن طريق العرافة أو الكهانة كما يريد بعض الشعراء أن يضيفوه على أنفسهم، ومع ذلك إذا أردت أن أحدثك عن المستقبل القادم، فأنا أعتقد أنه سيكون فترة ضياع، بمعنى أنه مستقبل أمة فقدت كما قلت حلمها، ومحاطة كلها الآن بغزو ثقافي وفكري، وتتبنى المنجزات المدنية الغربية،

نحن الآن نملك مواطنا عربيا تحدت يده أحدث الأجهزة والسيارات، وأحدث منجزات التكنولوجيا، ولكنه لا يملك العقلية العلمية التي يستطيع بها أن يدير كل هذا فهو مستهلك، وليس منتجا، متلق، وليس مبدعا، ولذلك أعتقد أن العرب في السنوات القادمة لن يستطيعوا أن يقدموا أي إسهام حضاري.

ولكنهم يستنشقون كل معطيات الغرب، وهذا سيؤدي إلى ظهور أحدى الشخصيتين، أما شخصية تواجه هذا وتبحث عن جذورها، وتستطيع أن تصنع لنفسها عطاء جديدا دون أن تتخلى عن تقاليدها وشخصيتها، مثل اليابان أو شخصية تضيع في طوفان الانبهار بالحضارة الغربية وتصبح شعبا لا شرقيا ولا غربيا، مثل الأتراك، فنحن أمام نموذجين، نموذج تركيا التي تبنت قيم الغرب، من فترة مبكرة وأصبحت الآن دولة لا قيمة لها في الإبداع الحضاري، أو دولة اليابان استطاعت أن تستوعب كل حضارة الغرب، وفي نفس الوقت أن تحتفظ بشخصيتها القومية.

 الآن ما الذي يمكن أن تقوله عن محصلة مواقفك العامة والشخصية التي وقفتها؟

لم أقف موقفا في حياتي ندمت عليه، كل مواقفي كانت بناء على اقتناعات داخلية، وأنا على عكس ما يتخيل جميع الناس، لست متنميا لجماعة أو لتيار، فالأصل في مواقفى أنني مقتنع بها شخصيا، أولا وربما كان خلافي مع أصدقائي، لا يدور إلا حول هذه المواقف، فلا يوجد موقف لي ندمت عليه، ولا توجد كلمة كتبتها أحسست بعدها أنني كنت خائنا لنفسي أو لضميرى.

 كثرت وانتشرت فيها الفترة السابقة، ومازالت، ظاهرة صدور الدوريات والكتيبات الأدبية، فعلا تدم تدل هذه الظاهرة عندك؟

في فترة الستينيات كان هناك العديد من المجلات الثقافية، صحيح أنها تعرضت في نفس هذه المدة الفترة للإلغاء، والإعادة، ولم تكن مستقرة إلا أنها كانت تستوعب الموجود، وبعد نكسة 67 كان هناك قدر متاح من الحرية أتاح الفرصة للعديد من الآراء والاتجاهات للظهور، ولكن في السبعينيات ألغيت كل هذه المجلات والدوريات وظهرت مكانها مجلات تسمى بذات الصوت الواحد، أو ذات الاتجاه الوحيد، مثل الثقافة والجديد، وتحول الكاتب أيضا، ولنقل أنه كان الاتجاه الذي ترضى عنه السلطات، فكان لابد للكتاب والشعراء الآخرين، أن يلجأو إلى متنفس آخر.

والحقيقة أنهم سقطوا في خطأ التشرزم، فأصبحت هناك عدة كتيبات كل مجموعة تجتمع وتصدر كراسة واحدة، ولم يستطيعوا أبدا التجمع، والوحدة لتحويل هذه الكراسات إلى مجلة واحدة، كانت ستتكلف نفس التكاليف، ولكن كان سيكون لها أثر كبير وأعمق، وهذا التشرزم الذي ظهر في الدوريات يعكس تشرزما داخل الحياة الثقافية نفسها، وداخل هذه الاتجاهات نفسها.

فالكراسات الثقافية هذه بالرغم من أنها كانت تنفسيا عما هو موجود وتوصيلا للكتابات والتيارات الفكرية المنتشرة في خارج الدوريات الرسمية إلا أنها في نفس الوقت تعكس عيب هذه التيارات، وهو عدم قدرتها على العمل الموحد، والمركز لكي تصبح تيارا، ونهرا واحدا مؤثرا،

كنت حريصا رغم آلامك على الحضور والاشتراك في مهرجان شوقي وحافظ، فما هي القصيدة التي شدتك لغيرك، وأعجبتك أكثر من سواها؟ ولماذا؟

قصيدة “البردوني” بالتأكيد، لأنه أثبت أن الشعر ليست مشكلته أن يكون عموديا أو حديثا، وإنما الشعر أساسا صوتا خاصا في نفس الوقت، يحمل أفكارا، فعندما ناقش البردوني، وتقدم لشخصية المتنبي جاء بإحساس درامي جيد، وصور صراع المتنبي الداخلى تجاه من يملكون السلطة، ولكنهم لا يملكون الحساسية والفكر الذي يؤهلهم القيام بدور الصدارة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى