فريد الأطرش يكتب: مغامرة فى كازابلانكا

الكثير من الناس لا يعرف أن الفنان الراحل فريد الأطرش كان يكتب مقالات، وقد نشرت مجلة الموعد مقال للراحل بعنوان “مغامرة فى كازابلانكا” وقد أعادت صفحة نعيم المألون تشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. ويعيد موقع مباشر 24 نشره مرة أخرى حتى يفيد القراء به.

لقد أمنت جانب ذلك الرجل الخفيف الظل الطيب المعشر، الذي أحاطنا بكل هذا الحب والكرم والاهتمام، وفجأة عرفت أنه الرجل الوحيد الذي صادفته في حياتي الذي يمكن أن يكون ينبوع الخطر، كنت في رحلة إلى شمال أفريقيا، كان الناس هناك في ثورة دامية على المستعمر الغاضب، لا يكاد يمر يومًا حتى يسقط عشرات الضحايا وتصبح الشوارع في الدماء الذكية، والفرنسيون يقابلون العزل بالسلاح، ويقابلون صيحات الحرية بأصوات المدافع، وفرقعة القنابل.

وصلت إلى رباط، ونزلت في أحد فنادقها، وفي اليوم الأول نزلت مع شقيقي فؤاد الأطرش فوجدته رجلا وسيما، عليه سيماء النبل، يتقدم نحوي ويصافحني شادا على يدي في شوق، ولاحظ الدهشة على وجهى فقال لي إنه يعرفني، وأنه سيحاول أن يذكرني بشخصيته، وجلس إلى المائدة التي جلسنا إليها، وتحدث، فسالت من عباراته الرقة والظرف، قال: إنه زارني في مصر، وراح يصف أثاث بيتى وشلل الأصدقاء التي لا تنقطع عنه، وكان بارعًا حين لف المديح في ثوب تذكيرى بمناسبة لقانا، ولكني لم أتذكر أنني رأيته قبلا، ونظرت لوجه فؤاد وقرأت عليه أنه هو بدوره لا يذكر.

ماذا نفعل إذا والرجل يقول عن بيتنا أشياء لا يمكن أن يقولها إلا رجل دخل بيتنا فعلا؟ ولم يترك المحدث البارع لنا فرصة نفكر فيها، بل استأنف يقول: إنه جاء ليرد بعض الجميل، بعض الكرم الذي لقيه، قال إنه سيضع سيارة تحت تصرفنا، أما ما أعده لبرنامج ذلك اليوم، فهو نزهة يطوف بنا فيها رباط ليربنا معالمها.

وقبلنا، ليس على مضض، بل بارتياح، لأن الطريقة التي يعرض بها الرجل مقترحاته طريقة جذابة، أما السيارة التي تركها لتكون تحت تصرفنا فهي بويك أنيقة تسير كالعروس، وقد حاولنا رفضها، ولكنه أبى، وقد حاول أن نشكره على كرمه ونطلب منه أن يقتصد فيه قليلا، لأننا ارتبطنا بدعوات واستقبالات أخرى، ولكنه كان يقنعنا وهو يرفض بأن الذي يفعله معنا ليس إلا جزءًا يسيرًا من كرمنا.

وأذهلنا هذا، وفكرت ماذا يريد هذا الرجل؟ وما السر في كرمه الزائد غير المعقول؟ وفي اليوم الثالث، ذهب أخي فؤاد إلى أحد البنوك ليصرف شيكا محولا، وكان معه رينيه وهذا هو اسم الرجل ـ وأخبر مدير البنك أخي بأن الحوالة لم تصل، وأنه يأسف لهذا التأخير الذي لا يد له فيه، وقال له أخى إننا غرباء في حاجة للمال ولكن مدير البنك كرر اعتذاره، وحينئذ قال رينيه لمدير البنك: “اصرف له من حسابي” وحاول فؤاد أن يرفض ولكن رينيه أصر، وقال: إنه يقبل الشيك مظهرا له، وأخذ فؤاد المبلغ وعاد.

وشكرت رينيه على أريحيته وشددت على يده، وأنا أقول له: ودعا ياصديقنا، سنذهب إلي الدار البيضاء اليوم
فقال: أنا سأذهب معكم وحاولنا أن نثنيه عن هذا العزم، ولكنه عودنا على العناد الرقيق المهذب، وانطلق معنا إلى كازابلانكا أي الدار البيضاء، وطاف بنا أرجائها، وذهب بنا إلى معالمها، ويسر لنا كل الأمور المعقدة التي تصادف الإنسان في بلد غريب، وهو إلى هذا خفيف الظل حلو النكتة سريع البديهة أليف المجلس، فلم نمل صحبته، ولا تضجرنا من مرافقته لنا.

وذات يوم أقبلت على فندق كازا بلنكا صحيفة تونسية، شديدة الغيرة على بلادها، وقد لمحت رينيه يجلس مع فؤاد على مائدة مجاورة فسألتني وهي تتصنع الجهل: من هذا الذي يجلس مع شقيقك؟ قلت لها في بساطة: إنه صديق قديم اسمه رينيه.

فقالت فيه ذكر أنه بوليس سر يا سيد فريد احذروا جانبه وصمتت لهذه العبارة صمت ليس لأنني أخشى البوليس السري ، ولكن لأن رينيه كان من البراعة والثراء وخفة الظل بحيث صرف تفكيرنا على عن صفته هذه، وقلت لفؤاد بعد ما قالته الصحفية بعد انصرافها، فقال لي: يخيل أنها صادقة ولكن لابد أن نكتشف ذلك بأنفسنا.

وذات يوم خرجنا إلى استراحة خارج حدود المدينة، وجلسنا في بهو واسع نتجاذب أطراف الحديث، وفي رأسينا ـ فؤاد وأنا ـ ألا نصارح رينيه بشئ حتى نرى ماذا يريد منا وفجأة صاح أحد جرسونات المحل:
مسيو جيمس.. تليفون، فنهض بنا واتجه إلى التليفون، وفهمنا أن رينيه اسم مستعار، وحين عاد رينيه بعد دقائق.

كان يبدو عليه الاضطراب، وقد نظر وجهنا فوجد فيهما صمتا مطبقا، ولم يجد شيئا يفهم منه أي معنى
وجلس، واعاد النظر لوجهينا، كانت هناك حرب أعصاب خفية أنهاها بقوله: إنني مشهور باسم جيمس، أصدقائي وخدم الفنادق والمحال العامة يعرفونني بهذا الاسم.

وهكذا أجاب رينيه على سؤال لم توجهه إليه، وحاول أن يخفى ارتباكه، ولكنه لم يفلح، ورحمنا فيه هذا الارتباك، وفضلنا ألا نفاتحه في شيء.

وسارت الأمور بيننا كما كانت، يقابلنا في الصباح، ويقضي معنا سحابة النهار، ينتقل في صحبتنا في سيارته، ويعلق على الحوادث العادية في أيامنا، تعليقاته الخفيفة اللطيفة، ولا يتركنا إلا في المساء بعد أن نأوى إلى المضاجع
وقد وصلنا في رحلتنا إلى فاس.

وكانت فاس آخر مدينة ننزل بها، وعرف رينيه أننا سنغادر شمال أفريقيا في تلك الليلة، فأقبل علينا وبه مزيد من الخفة والرقة، ومكث معنا حتى حانت ساعة الرحيل، فانتحى بنا ناحية، وقال:

ـ يجب أن أقول لكم الحقيقة قبل أن ترحلوا، أنا بوليس سري معين من قبل السلطات الفرنسية، لا تنسوا أنكم أبناء أسرة الأطرش التي كانت من أكبر أعداء الفرنسيين في الشرق العربي، ولقد توجست السلطات الفرنسية خيفة منكم، وأنتم تصلون لهذه البلاد، وهي في ألوان الثورة.

لهذا عانيت لمراقبتكم، وثقوا إنني لو كنت وجدت شيئا لما أبلغت عنه، لأنني أحببتكم وسرت صديقا لكم بالفعل
وما زال رينيه صديقا بالفعل، نتراسل معه ويذكر لنا الحقائق التي أود لها أنه لم يزر القاهرة مرة واحدة، ولم يجيء إلى بيتنا إلا في الأحلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى