عائشة التيمورية.. رائدة الشعر النسائي في القرن التاسع عشر

عائشة التيمورية.. رائدة الشعر النسائي في القرن التاسع عشر

كتبت: هدير عبد العزيز

يشهد شهر مايو ذكرى رحيل الشاعرة المصرية الكبيرة عائشة التيمورية، والتي رحلت في مثل هذه الأيام منذ 121 عام ، وبهذه المناسبة نعيد نشر ما كتبه الكاتب عباس خضر في مجلة “المجلة” سنة 1962 تحت عنوان “عائشة التيمورية في ذكراها الستين”:

من ذا الذي يجهل صاحبة هذه الأبيات:

بين العفاف أصون وعز حجاب       وبعزتي أسمو على أترابي

وبفكرة وقادة وقريحة       نقادة قد كملت آدابى

ما عاقنى خدرى من العلياء ولا    سدل الخمار بلمتى ونقابي

إنها الشاعرة المصرية عائشة التيمورية التي برقت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر في وقت ساد فيه ظلام الجهل وحيل بين المرأة خاصة وبين نور العلم والمعرفة، فعادت إلى الأذهان ذكرى المشهورات في تاريخ العرب والإسلام كالخنساء وليلة الإخيلية وعليه بنت المهدي وولادة وحمدونة الأندلسية وأم البنين وغيرهن.

نشأتها وعائلتها

ولدت شاعرتنا سنة 1840 وتوفيت في مايو سنة 1902 وهي أخت العلامة المغفور له، أحمد تيمور باشا، وكان أبوهما إسماعيل تيمور باشا من أصل كردي لأبيه تركي لأمه

ونستطيع أن نتبين من تاريخ عائشة أن الفضل الأكبر في تكوينها أديبة شاعرة، يرجع إلى ذلك الوالد الفاضل، فقد وجهها  الوجهة التي مالت إليها، وشجعها على سلوكها الطريق التي رغبت فيها، إذ أبت أن تحيا حياة مثيلاتها من بنات القصور في ذلك العصر، ورغبت في التزود من العلوم والآداب، ووقعت من جراء هذه الرغبة في صراع بين ما تصبوا إليه وما تريده لها أمها من تعلم التطريز وإشغال الإبرة وسائر الأعمال النسوية، وكانت الأم ترى في تشبث ابنتها بالكتب والقراءة شذوذا لا يليق بفتاة، فنشب بينهما جدال ظل يتتابع حتى قطعه الوالد الحصيف بقوله لزوجته: دعيها فإن ميلها إلى القراءة أقرب.

 

وتحدثنا عائشة عن ذلك حديثا طريفا فتقول: فلما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إلى ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والالتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران، وبأدوات النسج والتطريز، وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفهيمى، وتغطيني، وأنا لا أستطيع التلقي، ولا أقبل في حرف النساء الترقي.

وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتاب بدون ارتباك، فأجدوا لصرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وتخيل أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس من شوقي قطع القراطيس وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام، وأفند الكتاب في التحرير، لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدتي وتعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزدد إلا نفورا، وعن هذا التطريز قصورا.

فبادر والدي تغمد الله بالغفران ثراه، وقال لها: دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، واحذري أن تكثري من الكسر في قلب هذه الصغيرة، وأن تثلمي بالعنف طهرها، وما دامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق، فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها، وتعالي نتقاسم بنتينا فخذي عفت وأعطيني عصمت، (كان اسم الشاعرة عائشة عصمت) وإذا كان لي من عصمت كاتبة وشاعرة، فسيكون ذلك مجلبة للرحمة لي بعد مماتى

وأخذ والدي بيدي، وخرج بي إلى محفل الكتاب، ورتب لي أستاذين، أحدهما لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية.

دواوين الشعراء

وجعلت عائشة تقرأ دواوين الشعراء، وتعالج النظم بالأوزان السهلة، وكانت تنظم الشعر باللغات الثلاث: العربية والتركية والفارسية، وكانت تسمع أباها ما تنظمه، فيسر ويثني عليها، ويشجعها، ولكنها لم تمضي على ذلك طويلا، إذ تزوجت فشغلت ببيتها وزوجها عن مواصلة التحصيل والنظم، وخاصه بعد أن رزقت بأولاد، فلما كبرت أبنتها توحيدة ألقت إليها بعبئ المنزل، واستأنفت حياة الدرس والمطالعة ونظم الشعر باللغات الثلاث.

وتوفي زوجها بعد والدها، فزاد فراغها للشعر والأدب، وكانت الشاعرة تحب ابنتها توحيدة حبا جما، وأنقل فيما يلي فقرة من مقدمة ديوانها التركي الفارسي تتحدث فيها توحيدة قالت: وبعد انقضاء عشر سنوات كانت الثمرة الأولى من ثمرات فؤادي، وهي توحيدة نفحة نفسي، وروح أنسي، قد بلغت التاسعة من عمرها، فكنت أتمتع برؤيتها تقضي يومها من الصباح إلى الظهر بين المحابر والأقلام، وتستغل يومها إلى المساء بإبرتها، فتنسج بها بدائع الصنائع، فأدعو لها بالتوفيق، شاعرة بحزني على ما فرط مني، يوم كنت في سنها من النفرة من مثل هذا العمل، ولما بلغت ابنتي الثانية عشرة من عمرها، عمدت إلى خدمة أمها وأبيها، فضلا عن مباشرتها إدارة المنزل ومن فيه من الخدم والأتباع، فتسنى لي أن أنصرف إلى زوايا الراحة

شعر المناسبات

ونجد في شعر التيمورية كثيرا من شعر المناسبات والمجاملات، ومهما يكن من اختلاف الرأي في قيمته، فهو يصور لنا مبلغ قدرة الشاعرة على صناعة القريض، من مقامات لا تستوحى فيها عاطفتها، ولا تستجيب لنوازع نفسها، ومن العجيب أن شعرها الغزل يستغرق مائة قطعة أو قصيدة من مجموع أشعارها التي تبلغ عدد قصائدها ومقطعاتها عشرين ومائتين على حين أنها كانت تصنع الغزل على حد قولها في مقدمة قصيدة،

“وقلت متغزلة في غير إنسان، والقصد تمرين اللسان”

ولو كان غزلها حقيقيا لما باحت بحرف منه في عصرها المتوتر، وبيئتها المتحجبة، ومكانتها المصونة، ولكنها تصطنع الغزل وتمارسه، وربما كان أنسها به وإيغالها فيه لأنها رأت فيه مجالا للتنفس ولإظهار العاطفة المكبوتة التي لا تجد السبيل إلى الانطلاق، فإن في شعرها الغزالي رقة، وفيه نبضات، ويبدو أنها عوتبت في هذا الغزل، فهي تقول

تركت الحب لا عن عجز طول     ولا عن لوم واش أو رقيب

ولا من روع زفرات التصابي     ولا من خوف أجفان الحبيب

ولا حذر الفراق وخوف هجر    به تجري المدامع كالصبيب

ولكنى اصطفيت عفاف نفسي      تقر بصفوه عين الأريب

وذاك لأنني في عصر قوم     به التهذيب كالأمر العجيب

 

ديوان التيمورية

وقد ظهر ديوان التيمورية العربي منذ أكثر من نصف قرن، ويسمى “حلية الطراز” ثم طوته الأيام الا  يام فلم تبق منه إلا ذكرى تهز النفس، وصدى يعبر السمع، وقد عنيت لجنة نشر المؤلفات التيمورية التي كان يرأسها الأستاذ خليل ثابت بإخراج ديوان عائشة التيمورية حافلا، مستكملا ما كان مخطوطا من القصائد، وقد قام بتحقيقه وضبطه الأستاذ محمد شوقي أمين، وقد كتبت الأميرة السابقة قدرية حسين تصديرا لهذا الديوان، قالت فيه: إن الناقد الأدبي يتعرض لتمحيص ديوان التيمورية يجب عليه أن يوازن بينه وبين ما كان يجري عليه الشعر العربي في ذلك الحين، وإذا كانت المرأة المصرية قد مهد لها وسائل التزود من الثقافات على اختلاف ألوانها، وفسح لها مجال التفوق والتبريز، فسيبقى لاسم السيدة عائشة التيمورية شرف السبق إلى نور المعرفة، واقتطاف أزاهير الأدب في عصر تعذرت فيه الوسائل، وستظل ابنة القرن التاسع عشر فخرا لبنات القرن العشرين وما يلحق به من العصور

وأعتقدوا أن أحد الأدباء كتب هذا التصدير لكى ينشر باسم قدرية حسين في مقدمة الديوان. فلم يكن لمثيلاتها اشتغال ولا اهتمام بمثل هذه النشئون الأدبية وخاصة اللغة العربية.

نثر جيد

ولعائشة التيمورية نثر جيد وإن كان يجرى على سنن عصرها في الكتابة من حيث السجع ومحاكمة أسلوب المقامات، وقد ألفت كتاب نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال ضمنته قصصا وحكايات في أحوال الناس، مستعينة فيه بما قرأته في التاريخ وما سمعته من حكمة العجائز وما قر في ذهنها من تجاربها في الحياة. ولها كتاب مرآة التأمل في اللأمور عالدجت فيه بعض الموضوعات الاجتماعية بأسلوب قصصى\, كانت تكتب مقالات وتنشرها في الصحف التي كانت تصدر في عصرها كجريدة المؤيد منا مقال عنوانه لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات وجهت فيه اللوم إلى المرأة على مبالغتها في الزينة ون الانتباه إلى واجباتها وهى ترى في ذلك مبعث الخلل والفساد

وقد دعت التيمورية إلى مشاركة المرأة للرجل في الأعمال وألقت المسئولية في تأخرها على الرجل قالت:

فعلام ترفعون أكف الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى، وقد سخرتم بأمرهن، وأزدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كل معنى؟ فانظروا عائد اللوم ىعلى من يعود؟

وقد سبقت التيمورية في هذا المجال من جاء بعدها من أصحاب الدعوة إلى مشاركة المرأة للرجل