الهاشمي في أصبوحة الجامعة الأهلية: “الجواهري” استعان بمجازئ البحور الشعرية ليخفي آلامه والتمرد على أحلامه

المنامة – خاص
لم تكن ندوة كبقية الندوات، تلك التي بدأت أعمالها بعنوان مناحي كبير “تجربة الموت عروضيًا عند الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري”، ولم يكن ضيف الأصبوحة وصاحبها سوى عاشق للجواهري ومتابع أوثق لأعماله ومناحاته ومطارحاته على مدى الأيام.

الدكتور علوي الهاشمي الشاعر والناقد والأديب البحريني الكبير استضافه مركز اللغة العربية والدراسات الشرق أوسطية بالجامعة الأهلية يوم أمس، أدار الندوة أستاذة اللغة العربية بالجامعة الدكتورة رفيقة بنت رجب، وافتتحها بكلماته المؤثرة الرئيس المؤسس للجامعة ورئيس مجلس أمنائها البروفيسور عبدالله يوسف الحواج، اعتبر أن هذا التجمع الأدبي يأتي ضمن مسيرة مباركة للجامعة الأهلية لتشجيع الإبداع والتميز، وصقل المواهب وتعليم الأجيال الطالعة على التفكير والإنجاز.

وقال البروفيسور الحواج أن هذه الأصبوحة تأتي واللغة العربية تمر بمأزق خطير بل والشعر العربي ذاته يمر بمنعطف يشدنا إلى الوراء، وعندما نقول إلى الوراء فهذا يعني أنه يشدنا إلى التراث، إلى جواهر الأعمال، وإلى الآثر والمؤثر في حياتنا الثقافية.

ولعل في اختيار الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري وفي دعوة الشاعر الصديق الدكتور علوي الهاشمي ما يؤكد على أن الجامعة عندما تنظم فعالية بهذا الحجم فإنها تضع في اعتبارها أن أمهات الأشياء وأصولها هي التي يجب أن نعول عليها، وأن آباء المعارف وأنسابها تعتمد دائمًا على الارتواء من تعاطي الأجيال اللاحقة حتى تواصل مسارها التنويري على أمة بني البشر.
رئيس الجامعة الأهلية البروفيسور منصور العالي فجر مفاجأة من العيار الثقيل رغم تخصصه المرعي في علوم الحاسوب وإيمانه المطلق بأهمية الذكاء الاصطناعي وقدرته الفائقة على أن يحل محل الإنسان في أداء العديد من الأعمال الذهنية والعلمية وحتى الأدبية.

وقد اعترف البروفيسور العالي في نهاية كلمته بأن الذكاء الاصطناعي قد نجح بالفعل في كتابة الشعر، في استخلاص مضامين رائعة، وفي تنميق أبجديات اللغة وتحسين المحسن فيها، لكنه فشل تمامًا في أن ينقل مشاعر الإنسان لأخيه الإنسان، بل أنه أخفق بما لا يدع مجالاً للشك في تصوير الشعر مثلما يقوم الشاعر الشخص بتصويره، أن الإنسان يمتلك التجربة لكن الذكاء الاصطناعي يمتلك الصنعة والمهنية، الإنسان يعيش المشاعر الآثرة والمؤثرة والذكاء الاصطناعي يلبي رغبته، من هنا فإن الشعر لن يموت، والشاعر سوف يواصل رسالته إلى يوم الدين.

وبدأت الندوة بسرد محوري لتجربة الدكتور علوي الهاشمي العروضية قبل أن يتعرض لمناحاتها في الوزن والقافية ومجازئ البحور عند الجواهري، وقال أنه بدأ حياته الشعرية وازنًا لأبيات قصائده دون أن يعلم، كان يؤدي وهو لا يدري، وكان يكتب الشعر الموزون المحبب إلى نفسه من دون أن يعرف ما يكتبه تلقائيًا هو في علم وعرف علم العروض موزونًا ضمن الـ 16 بحرًا والـ 11 أو الـ 12 تفعيلة المعتمدة لدى معجم الخليل ابن أحمد الفراهيدي.

واعترف الهاشمي بأن ما كان يؤديه تلقائيًا كان محببًا إلى قلبه قبل أن يتعلم ذلك ويدرك أنه علم وتفاصيل تستحق التعلم.

 

ثم عرج الشاعر الهاشمي إلى أربع قصائد للجواهري تشير إلى الموت في التجربة العروضية لأشعار الراحل الكبير الذي عاش زهاء المائة عام من 1897 إلى 1997 وهو ينازع سكرات الحزن، ويناجي فلذات الأحبة، طوافًا على أبيات قصائده متسائلاً: هل الشكل أو الوعاء العروضي قد فرض نفسه على تجربة الموت عند الجواهري، أم أن التجربة هي التي فرضت نفسها واختارت لنصوصه ذلك المجزوء من بحور الخليل، مثل مجزوء الوافر، ومجزوء البسيط، ومجزوء الخفيف.

في القصيدة الأولى التي كتبها الجواهري وتعبر عن تجربة الموت بعد أن فارقت زوجته الصغيرة الجميلة الحياة وهي في عمر العشرين، ذهب إلى قبرها ليناجيها بقصيدة حملت عنوانًا باكيًا هو: ناجيت قبرك، ثم توقف الجواهري لمدة سنة وأكثر عن كتابة الشعر، قبل أن يعود متسائلاً بقصيدة باكية أخرى: أجب أيها القلب.

وعندما مات شقيقه الأصغر جعفر برصاص الغدر كتب قصيدة من أروع ما أبدعه الشاعر الكبير بعنوان: أخي جعفر، قبل أن يغوص في تجربة الموت العروضية أكثر فأكثر من خلال قصيدته الشهيرة: لقد أسرى بيَ الأجل، وفارق الحياة.

تجربة أبكت جموع الحاضرين واستولت على مشاعر الخاصة من الذين ارتأوا في هذه المسيرة الطويلة مشقة تفوق استنجاد الجواهري بمجازئ البحور الشعرية، حتى يخفي آلامه، رغم عدم تبرئه منها، وحتى ينقذ المتبقي من أحلامه، رغم إعلانه الصريح بالتمرد عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى