جمال الغيطاني يكتب: المقاهي وحدة إنسانية

أحب الروائي الراحل جمال الغيطاني مصر القديمة، وكتب عنها كثيرًا، وفي مقال قديم له نشر في مجلة الدوحة يعيد نشره موقع مباشر 24، في ذكرى ميلاده اليوم الموافق 9 مايو، وقد تحدث عن المقاهي القديمة التي تمتد في عمق التاريخ.. وهذا نصه:

مقاهي القاهرة عالم فريد متشابك العناصر يحوي الملامح الإنسانية العامة، وله أيضا سماته الخاصة جدا، في مقاهي القاهرة يجلس الناس حول المناضد متواجدين يتبادلون النجوى والأحاديث، وكم حوت تلك الأحاديث الأشواق الإنسانية والمصالح المادية وقضاء الحاجات وعقد الصفقات، وثمة من تلفه الوحدة يجلس محملقا في الفراغ، وقد يحاول قهر وحدته بحديثه إلى جار لا يعرفه، وربما بدأت بينهما علاقة قوية قد تستمر عمرا، وربما لم تعش أكثر من حدود اللقاء.

عالم المقاهي

يمكن القول أن العصر الذهبي لمقاهى القاهرة كان هو النصف الأول من هذا القرن خاصة في العشرينيات والثلاثينيات، وكانت القاهرة الجميلة الهادئة وقتئذ، تزخر بالعديد من المقاهي، منها مقهى نوبار، والذي توجد مكانه الآن مقهي المالية وكان مجمعا للفنانين، وكان عبده الحامولي يقضي أمسياته فيه، ومعه بعض أصحابه، ومنهم باسيلي بك عريان، الذي أفلس بعد أنفق نصف مليون من الجنيهات، وأحيانا كان يضيق بالزبائن المقهى فيطلب من صاحبه أن يخليه من الزبائن له ولأصدقائه فقط، على أن يعوضه الخسارة

وفي ميدان الأوبرا كان يوجد مقهى السنترال، وموضعه الآن جزء من ملهى صفية حلمي في ميدان الأوبرا، وهذا الملهى يضم أيضا مقهى من طابقين، حتى الآن ويعرف باسم كازينو الأوبرا، وكانت تعقد به ندوة أدبية لنجيب محفوظ كل يوم جمعة، وعندما التقيت به لأول مرة كان ذلك في ندوة الأوبرا الشهيرة هذه.

مكان مقهى متانيا

أما مقهى متانيا فمكانه في ميدان العتبة الخضراء، وكان يؤمه جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده وسعد زغلول وإبراهيم الهلباوى المحامى المشهرة ثم ارتاده عباس العقاد وإبراهيم المازنى والشيخ فهيم قنديل صاحب جريدة عكاظ التي كانت تصدر في القاهرة وفى ركن المقهى مكعم صغير للفول والطعمية كان رواد المقهى يجدون فيه حاجتهم من الطعام،

وعلى مقربة من الموسكي توجد قهوة القزاز، ومكانها الآن بعض المباني القائمة عند الجانب الأيمن من الشارع بالقرب من العتبة، وعامة زبائنها من أهل الريف الذين يجلسون فيه ويتأملون النساء القاهريات المحجبات بالبراقع البيضاء والسوداء، أثناء اتجاههن لشراء حوائجهن من أكبر شوارع القاهرة التجارية في ذلك الوقت شارع الموسكي، وبالقرب من القزاز كان يوجد محل حلواني اسمه اللبان، وكان زبائنه من العسكريين القدامى والعجائز المتصابين، بعضهم حارب مع عرابي وبعضهم شهد حرب الحبشة، ومنهم من حضر فتح السودان، وكانوا يجلسون يتابعون المارة ويتبادلون الذكريات المستمدة من سنوات عمرهم البعيدة،

وفي شارع محمد علي يوجد مقهى تجارة وهو من أقدم مقاهي القاهرة ويزيد عمره الآن عن 120 سنة ولا زال قائما حتى اليوم، ومعظم رواده من الموسيقيين العاملين في الفرق التي تتخذ من شارع محمد علي مقرا لها، هذه الفرقة التي يطلق عليها فرق حسب الله، وحسب الله هذا كان أحد الموسيقيين بجوانة الخديوي إسماعيل، وعندما خرج من الخدمة شكل أول فرقة للموسيقيين، تتقدم الجنازات والأفراح، وفي نهاية شارع محمد علي أمام دار الكتب مقهى حافظ إبراهيم والشاعر عبد المطلب والشيخ عبد العزيز البشري.

وكان من رواد هذا المقهى أيضا الشيخ حسن الآلاتي، وكان الشيخ يرتاد مكان آخر بحي السيدة زينب يطلق عليه اسم المضحكخانه، ويشترط لدخول مجلسه وضع رسالة في التكييت والقفش، حتى إذا حازت عنده قبولا ضم مقدمة إلى مجلس النادي، وقد جمع الشيخ حسن الآلاتي كثيرا من نوادر المضحكخانة في كتاب طبع في نهاية القرن الماضي ويحمل نفس الاسم المضحكخانة

وخلف دار الكتب كان يوجد مقهى بلدي صاحبة رجل عرف بهوايته لمصارعة الديوك، وكان من رواده بعض الأثرياء الذين يشاهدون ما يقدمه من عروض، وفي شارع الصليبه القريب كان يوجد مقهى الأتراك، ومعظم زبائنه من الباشبوزق الذين كانوا يؤجرون أنفسهم من بيت محمد علي للحرب، وفي شارع محمد علي أيضا مقهى عكاشة.

وهذا المقهى أنشأ في الأربعينيات، بناه أولاد عكاشة أصحاب الفرقة المسرحية المشهورة، وكان مقهى مزودا بأجهزة استماع للموسيقى، يجلس الزبون إلى المنضدة ويضع السماعات إلى أذنيه ويطلب سماع أي أسطوانه يرغبها، لقد أدرك الزمان هذا المقهى بخطواته الثقيلة فأصبح مجرد مقهى عادي به آثار من العز القديم، وفي حي الحسين مقهى الفيشاوي الشهير، وعمره الآن يتجاوز ال 100 عام، وكان يتكون من وجهة أنيقة ودهليز طويل.

وحوله مقاصير صغيرة صفت فيها موائد رخامية ودكة خشبية، وكانت شهيرة بالشاي الأخضر والأحمر، الذي يقدم في أكواب زجاجية صغيرة، وفي شهر رمضان يكثر رواده من الفنانين والكتاب والناس العاديين، وفي أيام الشهور العادية كان للمقهى سحره الخاص، وداخله يخيم هدوء يمت إلى الأزمان البعيدة الجميلة، يؤطره هذه التحف العربية المتناثرة في المكان، وأمامه يجلس الحاج فهمى الفيشاوي يدخن باستمرار النرجيلة التي لا تنتهي أبدا.

وعلى بعد خطوات منه حصانه العربي الأصيل، وفوقه أقفاص الحمام الذي كان مغرما بتربيته، لقد صدر قرار بهدم هذا المقهى بعد عام 1967، ولم يستطع الحاج فهمي أن يواصل الحياة حتى يرى نهاية مقهاه، فمات قبل أن يرتفع أول معول للهدم بأيام قليلة، ولحقه على الفور الحمام الذي كان يربيه

كان من أشهر رواد المقهى الأديب العربي نجيب محفوظ الذي كان يخلو إلى جوه الهادي المعبق بالتاريخ يوميا، أثناء عمله بمكتبة الغوري الغربية، عندما كان يعمل في وزارة الأوقاف، من الشخصيات التي ارتبطت بالمقهى أيضا عم إبراهيم، كان رجلا قصيرًا ضريرًا يتاجر في الكتب.

وكان سريع النكتة، في ليالي الثلاثينيات يجلس عدد كبير من الرواد، ويبادرهم هذا الشكل الفكاهي من الحوار، والمعروف في مصر باسم القافية، وكان يرد عليهم كلهم ويهزمهم، ولقد عرف مقهى الفيشاوي العديد من الشخصيات، بعضهم باق في ذاكرة التاريخ، والكثير منهم رحل إلى دروب النسيان

على مقربة من الفيشاوي، كان هناك مقهى قديم وغريب يقع تحت الأرض واسمه مقهى سي عبده، وكان دائري الشكل، يضم عدة مقصورات، تتوسطها نافورة مياه، وقد وصف نجيب محفوظ هذا المقهى في روايته العظيمة الثلاثية، حيث كان يلتقي كمال عبد الجواد بصديقه فؤاد الغمراوي، لقد اندثر هذا المقهى تماما، ومكانه الآن بعض المباني الحديثة.

المقاهي الشهيرة في مصر القديمة

والمقاهى الشهيرة في القاهرة القديمة والباقية حتى الآن مقهى عرابي، الذي يقع بميدان الجيش عند نهاية الحسينية، وعرابي صاحبه كان أحد الفتوات المشهورين في أوائل هذا القرن، وقد بلغ من سطوته أن مأمور قسم الظاهر لجأ إليه يوما يطلب حمايته، لأن أحد الأجانب هدده، وكان الأجانب يحاكمون أمام محكمة خاصة في ذلك الوقت، ومن رواد مقهى عرابي: نجيب محفوظ حيث يلتقي بأصدقائه القدامى وزملاء طفولته.

وفي هذه الجلسة التي تتم كل يوم خميس تلعلع ضحكات الأديب  الكبير، ويبدو مرحا سريع النكتة، ولا يطرق هذه الجلسة من الشبان إلا عدد محدود جدا، عرف طريق المقهى الذي يستعيد فيه أديبنا الكبير ذكرياته وقصص شبابه مع رفاق الزمن القديم، غير أنه انقطع عن الانتظام في حضور هذه الندوات الأسبوعية منذ عامين، والسبب أزمة المواصلات في القاهرة التي تعوق أديبنا الكبير عن الوصول إلى بيته في العجوزة إلى ميدان الجيش.

مكان قهوة الفن

وفي مواجهة مسرح رمسيس “مسرح الريحاني” كانت تقع قهوة الفن وفيها البؤساء من الفنانين والكومبارس والنساء الضاحكات، كانت هناك ماري منصور، وزينب صدقي، ودولت أبيض، وأمينة رزق، وعزيز عيد، وفاطمة رشدي، وأحمد علام نقيب الممثلين.

تاريخ مقهى ريش

أما مقهى ريش الذي لا زال موجودا حتى الآن، فكان من أشهر مقاهي القاهرة، وحتى أربعينات هذا القرن كان يوجد عدد كبير من المقاهي في روض الفرج، مقاهي جدرانها من الخشب محاذية للنيل، وفي كل منها عدد من فنانى شارع محمد علي يعرضون فيها الغناء والمونلوج، ومنهم حسين المليجي، ونعمات المليجي، ولهلوبة، وزينب فلفل، وغيرهم

وإذا ما رحلنا إلى الخمسينيات، سنجد مقهى أنديانا في الدقي، وكان مقرًا لندوة أدبية يومية محورها الناقد الراحل أنور المعداوي، وكان من رواد هذه الندوة رجاء النقاش، وسليمان فياض، ومحمد بن معاطي أبو النجا، والآن انحسرت الندوات الأدبية التي كانت تعقد في المقاهي.

لم يكن متبقيا منها إلا ندوة تجيب محفوظ مع شباب الأدباء في مقهى ريش كل يوم جمعة، وحتى هذه الندوة توقفت منذ أن قرر صاحب المقهى إغلاقه يوم الجمعة من كل أسبوع.

مقهى الندوة الثقافية

بالقرب من قهوة ريش مقهى آخر يلتقي فيه عدد كبير من المثقفين والأدباء والصحفيين، ولكن بشكل غير منتظم، وهو مقهى الندوة الثقافية، وهو مشهور بالنرجيلة ويوليها اهتماما خاصا، في نفس الوقت الذي لا تعنى فيه المقاهي الأخرى بهذا النوع من التدخين