“العيش الشمسي” .. سيد الطعام في موائد الصعيد

كتب: السيد العديسي

بالنسبة لي حين يسألني أحد ما قادما من الصعيد، عما أحتاجه من هناك، فبلا تردد أو بحث أجيب: “هات عيش شمسي معاك”.. فأي شيء تستطيع الحصول عليه في العاصمة، أي شيء تستطيع إيجاد بديل له سوي خبز الصعيد.. هو ليس مجرد خبز، لكنه المنتج النهائي لطقس مختلف وقيمة جمالية وطعم ليس له شبيه.

 

العيش الشمسي ليس خبزا عاديا، تستطيع أن تطلق عليه أبو الطعام، أو سيد الموائد، لذا فإن المواطن الصعيدي –متعه الله بالصحة والعافية- يقبل بغياب أي صنف من الطعام عداه، بل قد يصل في بعض الأحيان الأمر لأن يكون وحده وجبة كاملة، وأحيانا بصحبة فحل بصل أو ثمرة طماطم، أو حتي القليل من الملح.

 

من عرفه وتعود عليه يجد مشقة في العيش بدونه، ويجد بعض المساخة في الأكل، ينأي منه دائما شعور الشبع والإمتلاء، يعيش كما لو كان خاويا من الطعام.

 

ويكفي أن تدرك قيمته من معرفة المراحل التي يمر بها صنع هذا الرغيف، من أول وجوده في سنابل القمح حتي استوائه علي مائدة الطعام.

 

في العادة فإن أهالي الصعيد لا يعتمدون علي دقيق الحكومة وحده في عمل الخبز ويلجأون دائما لخلطه بالقمح المطحون، حيث أغلب البيوت لديها مخزونها من القمح، وما يكفيها لعام قادم حين تأتي الأرض بخيرها، فالقمح المزروع في أراضي الصعيد لا يتم بيعه بأكمله ويتبقي منه ما يكفي العائلة، ودائما ما يتم إرسال بعضه للطواحين المنتشرة هناك، وبعد طحنه يتم خلطه بالدقيق ليعطي الطعم المعروف له.

دائما هناك خطة متبعة في صنع الخبز، وتبدأ تلك الخطة بطقوس معينة وقبل اليوم المنشود للخبيز، فيجب علي كل أسرة تنوي الخبيز صباح، أن تصنع الخميرة قبلها بيوم، وفي ذلك تلجأ سيدة البيت إلي جيرانها لأخذ “البسيس” وهو ما يتبقي من عجين في ماجور العجن بعد الخبز، ويستخدم كخميرة أخري لأي عجين قادم، فتأخذه ربة المنزل وتضيف عليه بعض من خميرة البيرة ليكتمل التخمر، وتخلطهما ببعض الدقيق والماء، في آنية مخصصة لهذا الغرض، ويتم عجنهم ووضعهم في الآنية، ولف بعض الأجولة والبطاطين عليها لإكسابها درجة الحرارة المرتفعة الكافية للتخمر، ومن ثم يترك لصباح اليوم القادم.

 

مع الصباح وقبل بزوغ الشمس بقليل تبدأ مرحلة العجينة، بوضع ما اختمر منه في قلب الماجور الكبير ثم وضع الدقيق عليه ثم الماء، ومن ثم عجنه ليكتسب القوام المناسب، بعد ذلك يأتي دور التقطيع، وفيه تستخدم كل ربة منزل ما يسمي ب”المقارص” وهي كتل مصنوعة من خليط الطين بفضلات البقر والجاموس ما يساهم في تماسكها، وتكون مسطحة بحيث تستوعب الرغيف الواحد، ويزيد عدد المقارص دائما علي الخمسين مقرصة بما يتناسب مع عدد الأرغفة المراد عملها.

 

يتم تقطيع العيش علي المقارص ثم يتم الربت عليه باليد ليتساوي ويستريح وبعد ذلك يترك في ضوء الشمس ليتم تخميره، بعد فترة وجيزة تأتي مرحلة “التقريح” وفيها تستخدم السيدة الصعيدية إبرة خياطة تجرح بها جانب الرغيف بشكل دائري لتمنحه الشكل المتعارف عليه، أو تصنع بها ثلاثة قرون بما يتناسب مع شكل الرغيف في تلك المنطقة.. ويترك أيضا ليكتمل إختماره.

 

بالنسبة لي كانت تلك المرحلة من أسوأ المراحل حيث أن العيش يجب أن يكون مواجها للشمس ما يعني فرشه علي الأرض في مساحة كبيرة، ما يستلزم وجود أكثر من شخص لحراسته من العصافير والمعيز والكلاب والسحالي، فكانت الأمهات تستعين بأبنائها، وبالطبع لأنني لم أكن من هواة ترك اللعب فكنت اتغاضي عن تلك المهمة، وكثيرا ما كانت المعيز تتسبب في أن أنال عقابا كبيرا حين تغافلني وتأكل العجين.

 

ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الأخيرة في صناعة العيش، وهي وضعه في الفرن، وليست كل سيدة في الصعيد تستطيع القيام بتلك المهمة، حيث أنها تحتاج لخبرات عديدة، فوضع “الوقيد” القابل للإشتعال يحتاج لطريقة معينة، كذلك إدخال الخبز بواسطة “المطرحة” يحتاج أيضا لعين خبيرة ورباطة جأش، تتميز بها دأئما السيدة الكبيرة في العائلة.