أميرة مهداوي تكتب: مذكرات إمرأة مقدسية
كانت تلك الايام من حياة الشعب الفلسطيني، زاخرة بالعطاء والفرح، والسعادة والخير، العطاء الذي لا يمل منه ذلك الفلاح العاشق للأرض.
فلقد خرج من رحم تلك الأرض ، ملوحاً جبينه بسمارها، وتغطي وجهه هيبتها، فأعطاها عمره، ورواها بعرق جبينه، وتعبه ، وكده ، وإجتهاده، لا يكل ولا يمل، من الفلاحة والزراعة، ولا تمل الارض من إعطائه الخير الوفير، الذي كان يعم أرجاء البلاد، بل والعالم كله بلا ريب.
فلقد كانت موانيء حيفا ويافا تعج بالسفن التي تأتي من اوروبا لتحمل البرتقال اليافاوي، والسمسم، والترمس، والقمح الفلسطيني الى كل العالم.
كان الهم الأوحد للانسان الفلسطيني ، أن يقدم كل مجهوده للانتاج من تلك الأرض ليحصل على قوت عياله من ما تنتج تلك الارض ، وما يفيض عن حاجته يذهب به الى أسواق حيفا ويافا ، ليحصل على كل ما هو ضروري ولازم من بضائع وادوات وملابس تأتي من انحاء العالم.
كانت الأقمشة الأنجليزية لملابس الرجال هي في الاهتمام الأول، والأقمشة التي تأتي من تركيا وبلاد الشام للالبسة النسائية، كان الحرص على الإهتمام بالهندام لدى المراة والرجل الفلسطيني يأتي بالمقام الأول ، بعد اقتناء الأثاث الذي كان يعد فاخراً في تلك الأيام، فلقد كانت تفخر أمي دائمًا، أن بيت أبيها يحوي البيرور، (قطعة اثاث خشبية عبارة عن عدة ادراج ضخمة الحجم يتم تخزين كل ما هو ثمين فيها ).
وكان بيت أبيها يحوي الخزانة أيضا ، وكل ما يلزم من ادوات الإضاءة من قناديل ولكسات ولمبات تعمل كلها بالكاز ( أدوات إضاءة قديمة على الاغلب صناعة يابانية)، بل وما أشد تباهيها وتفاخرها باقتناءها لماكينة الخياطة السنجر ( يابانية الصنع) والتي ابتاعها لها جدي كي لا تضطر هي واخواتها الستة، الذهاب إلى مدينة يافا لحياكة الملابس حتى وان كانت مرة في العام .
فقامت هي وشقيقتها بتعلم الحياكة على تلك الماكينة وأصبحت تمضي معظم لياليها في الحياكة على تلك الماكينة ، وإعداد الملابس لكل عروس كان يقترب زواجها في تلك الاثناء، بينما كان الرجال في تلك الايام يذهبون الى مدينة يافا لحياكة الدمايات والقمباز الذي يرتدونه، فوق اللباس الداخلي المحاك من قماش ابيض كانت تسميه( الخام ).
وهو عبارة عن سروال وفانيلة بلون أبيض، ( الدماية، أو القمباز، هو اللباس التراثي للرجل الفلاح الفلسطيني ، وهو عبارة عن ثوب طويل ، مفتوح من الامام يرد على جانب الجسم الأيمن ويثبت برباط من نفس القماش )، ولا زلت أذكر مدى السعادة والفرحة العارمة التي كانت تعترينا عندما كنا نتسلل الى خزانة جدي بعد ان يذهب لوضوءه فقط لنلقي نظرة على أدواته الفخمة ( الساعة التركية التي تغطى بغطاء لحمايتها ويتم تثبيتها على صدر الدماية بسلسال فضي جميل ، وعلى قداحة الحجر التي كانت تعبى بالكاز.
ويوضع بداخلها حجر صغير جدا ليولد الشرارة لاشعال الدخان الذي كانوايزرعونه أيضا في أرضهم، بل وزجاجة العطر التي تعمل على نظام الضخ ، باستخدام كرة كبيره فارغة كالبالون، تضغط على الكرة لتعطي الهواء الذي يخرج العطر من الفتحة العلوية لزجاجة العطر الفاخرة.
كان جل اهتمامهم أن يذهب الأبناء الصغار الذين لا يجيدون الفلاحة إلى الكتاب، لتعلم القراءة والكتابة للصبيان، وتعلم قراءة القرآن على يد شيخ القرية، وإمام مسجدها والذي غالبا ما يكون من اهل القرية وليسو غرباء
وكان شرف الامامة على الاغلب لجد والدتي والذي كان أكبرهم سنا واحفظهم لكتاب الله تعالى.