أميرة مهداوي تكتب: أيام البلاد

تسعون عاما ونيف تلك سنوات عمرتها امي رحمها الله بكل ما تحمل كلمة عمران من معنى، لامرأة فلسطينية لا تعرف من الحياة الا الكد والتعب والمعاناة، تجاوز احفاد امي بحياتها أكثر من مئة، بل وأصبح بعضهم أجدادًا ايضا بحياتها، كان ذلك مدعى سرور وحبور للحاجة فوزية والتي كانت تصر على جمع ابنائها واحفادها دوما الى جانبها، للدرجة التي كانت تفتعل المرض الشديد لتجمعهم حولها، برغم تقدمها بالسن وفقدانها للقدرة على تحمل الفوضى والضوضاء الناتجة عن تجمع العدد الكبير من الأبناء والاحفاد حولها.

تريدهم ولا تريدهم لم نكن نعرف كيف.لربما كانت امي رحمها الله تتوق من ذلك التجمع لايام البلاد كما كانت تطلق عليها، لم يكن يخلو ابدا يوما من ايام امي لا تجلس فيها لتحدث المتواجد منهم عن ايام البلاد ،وجمال وعز وفخر ايام االبلاد، وكم كنا نستمتع بل ونزهو بحديث أمي ذلك.

كيف لا والحاجة فوزية من كبار العشيرة، فوالدها رحمه الله الحاج أحمد من اكابر العائلة ومن اقطاعييها ايضا وكان مهابا ذا كلمة مسموعة، والمختار الحاج إبراهيم كان ابن عم ابيها اللزم كما كانت تقول، وختمت العز بزواجها بشيخ العشيرة أخيرًا الحاج محمود، لم يكن ينل ذلك الشرف الكبير الكثير من نساء العائلة كأمي.

كانت تبدأ امي رحمها الله حديثها في كثير من الأحيان منذ بدايات وعيها، اذ قدرت في سجلات المختار انها من مواليد ١٩٢٦، وكانت تحدث باخبار سمعتها من والدها عن الحكم العثمانى، وكيف ان الاتراك كما كانت تلقبهم قد جاءو الى كبار العشيرة ليتم تجميعهم في مكان واحد وخيروهم بين الخربة والبصة ، والمكانين لا يبعدان عن مدينة طولكرم إلا دقائق.

تقول أمي ان الكبار بالبلد قد اختارو الخربة ولا ادري لما تم تسميتها بالخربة ، هل هو تقسيم اداري عثماني ام لانها كانت ارضا بورا لا تحوي على الزرع برغم أنها أرض طينية حمراء لا تصلح إلا للزراعة، تم اختيار الارض للطابو والتسجيل في سجلات الاتراك وتم اعطاء كل فرد في العائلة سجلا كانو يسمونه الكوشان، وتركو البصة ليرعى فيها الجاموس ويرتع ويستحم ، فبحسب قول امي لم يكن يحفر أحدهم اكثر من شبرين في الارض الا تتدفق المياه من ارض تلك البصة.

عمرت العقود كما كانو يطلقون عليها لزمن بعيد ، والعقد هو بيت كبير يبنى من الحجارة الضخمة التي يتجاوز طول الحجر فيها احيانا المتر وعرضها لا يقل عن ال ٧٠ سم، وذلك لعدة اغراض كانت تشمل الجدران اماكن عديدة لتخزين الحاجيات فيها، كانت تلك الاماكن في الجدار لها عدة مسميات، فالموقع الصغير يسمى ( طاقة ) وكانت تحفظ فيها الماكولات مثل البيض والعنب والصبار واللبن والجبن، وحتى الحبوب اليابسة والتي كانت تجنى كلها من الارض ،
فهم فلاحين يعشقون الأرض واصحاب مواشي لم يكن يعرف احدهم اعداد مواشيه في بعض الأحيان، كانو يزرعون السمسم كثيرًا، والقمح والترمس والذرة، وكانو يزعون البطيخ كثيرا والقثاء (فقوس ).

يزرعون ما يشبه الذرة وتسمى نبتة القش ام المكانس والتي كانو يصنعون منها مكانس القش، وكان كل محصولهم إما يستخدم للاستعمالات اليومية لبيوتهم وما زاد عن ذلك يذهبون به الى مدينة حيفا او يافا لاسبدالها ببرتقال يافا الجميل.

كان يوم الفلسطيني يبدأ مع الفجر، فلا بد ان يصحو مبكرا ليستغل اكبر عدد من ساعات النهار في الفلاحة فالارض تحتاج الى مجهود كبير سواء بالبذر أو الحصيدة او جمع الذرة لم الترمس وغيرها، كان حديث امي لا يخلو من الفكاهة حينا ومن الحزن أحيانا، لم اسمع ولم ار كامي حزنا حين كانت تحدثنا مرارا وتكرارا عن حادثة موت أمها.

فلقد كانت والدتها حامل في شهرها الثالث اذا نشب خلاف بين والدتها ووالدها ، كان على مايبدو خلافا شديدا ما استدعى ان يقوم والدها بدفع امها لتسقط على الارض ، ويضرب ظهرها بالمدود ( المدود المكان المخصص لوضع التبن للجاموس )

وتصاب بالنزيف، وتبقى تنزف ليومين متتالين الى ان فارقت الحياة، كانت تعتريها المرارة والغضب حينما كانت تقص تلك الحادثة، كانت تحمل مسؤولية موت أمها لوالدها، إذ لو لم يقم بدفعها لما ماتت، وكانت تبلغ أمي آنذاك من العمر خمس سنوات فقط.