أحمد البصيلي يكتب: حرمة المال العام طبقا لقانون الإسلام
المال العام عزيزي القارئ هو المال المملوك للدولة، وبالتالي فالانتفاع به يكون على المشاع للأمة كلها، وذلك كالموارد والشركات والمؤسسات والمباني والطرق والمدارس والجامعات ووسائل المواصلات، وما يشمل النقود والعروض والأراضي والآليات والمصانع، والانتفاع بهذه الأموال والممتلكات حق للأمة كلها، وليست خاصة بأحد، ومن يتولى أمرها لا يعد مالكاً لها، وليس من حقه التصرف المطلق فيها، بل هو أجير أو مؤتمن عليها أو حافظ لها، وعليه أن يديرها وفق القواعد القانونية والشرعية.
وقد أكدت الشريعة الإسلامية على حرمة المال العام، وحذرت من أن تمتد الأيدي إلى شيء منه، وقررت عقوبات رادعة لكل من تسول له نفسه استحلال شيء منه لنفسه أو لغيره من دون وجه حق، كما عنيت شريعتنا الغراء بتربية أخلاقية لكل مسلم، حتى يجد رادعاً داخلياً يمنعه من أن يتلاعب به الشيطان ويدفعه إلى العدوان على المال العام..
اقرأ معي هذا الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِي قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْأُتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، قَالَ: ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ) ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثًا؛ لقد غضب من فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه تربح من وراء المنصب، ونفوذ من غير استحقاق، وكسب غير مشروع.. فكيف بمن يستولي عنوة على مال الدولة؟!
نقول لكل من أخذ هدية بسبب منصبه ووجاهته انظر إلى حالك بعد يوم واحد من التقاعد كيف يكون حالك ترى الذي أهداك بالأمس لا يكاد يلقي عليك السلام ، فهل كانت هديته لمحبة أم لأمر أخر؟ إن رب البشر يراك!!
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة… والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها… إن الذي خلق الظلام يراني!
وإن لم تتب من عملك المشين ذلك فستفضح على رؤوس الخلائق يوم القيامة.. لقد اِشْتَهَى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز التُّفَّاح فَلَمْ يَجِدْ فِي بَيْته شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ فانطلق في ركب معه, فَتَلَقَّاهُ غِلْمَان الدَّيْر بِأَطْبَاقِ تُفَّاح , فَتَنَاوَلَ وَاحِدَة فَشَمَّهَا ثُمَّ رَدَّ الْأَطْبَاق , فَقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَا حَاجَة لِي فِيهِ , فَقيل له : أَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْر وَعُمَر يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّة ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لِأُولَئِكَ هَدِيَّة وَهِيَ لِلْعُمَّالِ بَعْدهمْ رِشْوَة”.
إن الإسلام قد أكد على حرمة الأموال وقرنها بحرمة الدماء، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، اللهم بلغت اللهم فاشهد»، وقال: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به»، وقال: «إن أناساً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة».
ويقول الحق سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذَ?لِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَ?لِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)، «سورة النساء: الآيات 29 – 30».
وسرقة المال العام أو الاعتداء عليه أشد حرمة وجرماً من المال الخاص، لأن المال العام تتعلق به حقوق كثيرة، فهو ملك للمجتمع بجميع أفراده، وكلهم متعلقون به، يقول الحق سبحانه: (… وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، «سورة آل عمران: الآية 161».
إن الأمر جد خطير وليس مما يتهاون فيه؛ أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنْ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ قَالَ: (وَمَا لَكَ؟) قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا.قَالَ: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى).
وقد كان بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم من الزهاد يتركون بعض الحلال مخافة أن تكون فيه شبهة حرام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
وقد يظن أو يتوهم بعض الناس أن سرقة المال العام تنحصر في بعض أشكال السطو أو الاختلاس غير أن الأمر أوسع من ذلك بكثير، فالتهرب من سداد مستحقات الوزارات والجهات والهيئات والمؤسسات المملوكة للدولة هو في حكم سرقة المال العام، بل هو سرقة حقيقية وفعلية له، فسرقة الخدمات لا تختلف عن سرقة الأموال والسطو عليها، لأن الخدمات في الحقيقة هي مقومة بمال، فمن يسرق الكهرباء، أو يسرق المياه، أو يتهرب من سداد أية أموال مستحقة عليه للدولة، كمن يسرق المال سواء بسواء.
كما أن من يتحايل على صرف ما لا يستحق كمن يقوم بتزوير بعض الأوراق للحصول على دعم لا يستحقه.. فهو آكلٌ للسحت، لأنه يأخذ ما لا حق له فيه، ويستوي مع هؤلاء في الإثم والمعصية من يعينهم على ذلك أو يغض الطرف عنه، أو يتقاعس عن وضع الأمور في نصابها، أو تحصيل ما أسند إليه تحصيله من مستحقات المال العام.
استمع معي – أيها القارئ الكريم –إلى تطبيق السلف لمبدأ الورع عن المال العام ؛ فهذا عمر بن عبد العزيز جاءه أحد الولاة وأخذ يحدثه عن أمور المسلمين وكان الوقت ليلاً وكانوا يستضيئون بشمعة بينهما ، فلما انتهى الوالي من الحديث عن أمور المسلمين وبدأ يسأل عمر عن أحواله قال له عمر : انتظر فأطفأ الشمعة وقال له : الآن اسأل ما بدا لك، فتعجب الوالي وقال : يا أمير المؤمنين لما أطفأت الشمعة ؟ فقال عمر : كنت تسألني عن أحوال المسلمين وكنت أستضيء بنورهم ، وأما الآن فتسألني عن حالي فكيف أخبرك عنه على ضوء من مال المسلمين؟!
وقد جاءوا في يوم له بزكاة المسك فوضع يده على أنفه حتى لا يشتم رائحته – ورعاً عن المال العام – فقالوا يا أمير المؤمنين إنما هي رائحة؛ فقال: وهل يستفاد منه إلا برائحته؟! فأين من نظر للمال العام بأنه غنيمة باردة فأخذ ينهب منها بغير حساب من مثل هذه القدوات!!
لقد حرم الإسلام كل صور الاعتداء عليه، مثل السرقة، والاختلاس، والغلول، وخيانة الأمانة ونقض العقود والعهود، والتربح من الوظيفة، والإتلاف والإسراف والتبذير، وضياع الأوقات، واستغلال المال العام لأغراض فئوية، والاعتداء على الأموال العامة من أشدِّ المحرمات، ويلزم المعتدي ردُّ ما أتلف، أو ردُّ مثله أو قيمته وإن تقادم عليه الزمن، لأنه نوع من أنواع الغلول، وإن أقبح أنواع “الغلول” هو الاستيلاء على حقوق المواطنين من المال العام
إن مَن يستخدم الأموال العامة في قضاء مصالحه الخاصة داخل في هذا الوعيد؛ ولا شك أن الله ينزع البركة من ماله وبيته وأهله، إن هناك طائفة من الموظفين إذا أراد أن يتكلم في الهاتف لغرضه الخاص ويكون الاتصال على هاتف جوال فإنه يضع هاتفه الجوال جانباً ويستخدم هاتف المصلحة التي هو فيها حتى يحمل التكلفة على المصلحة ولا يتحملها هو .
ومنهم من يستخدم السيارة التي أعطيت له من قبل العمل لقضاء مصالح العمل في قضاء مصالحه الخاصة، أو يستخدم موظفاً يأخذ راتبه من قبل جهة العمل لقضاء حاجاته الخاصة فيستخدم سائق المصلحة على سبيل المثال في توصيل الأولاد إلى المدارس والعودة بهم، أو في شراء احتياجات البيت من السوق، أو في تسديد الفواتير وهكذا فبأي حق حولت خدماته لك بشكل خاص ؟ هل هذا هو ردك لجميل من وثق بك وبأمانتك ووضعك في هذا المكان؟
وختاما.. لقد حمى الإسلام كل صنوف المال العام بكل أنواع الحماية، فحفظه هو أحد المقاصد الخمسة للشريعة الإسلامية، جنباً إلى جنب مع حماية النفس والعرض والعقل والدين، وقد شرع الله حد السرقة وحد الحرابة لحماية المال والثروات من كل أنواع الفساد في الأرض، وحرم الله أكل أموال الناس بالباطل، والسرقة من المال العام جناية أكبر من السرقة من المال الخاص لأنها جريمة في حق الشعب والمجتمع والأمة.