“أحلُم”.. قصيدة للشاعرة نورا عثمان

أَحلُمُ بالنَّارِ جواري وأُفِيقُ بحرقٍ في كفِّي
لا بُدَّ بأنِّي في حُلْمي لامستُ النَّارْ.
أحلُمُ بالماءِ على شَفَتي يتبخَّرُ،
أُبصِرُ ما يشبهُ خيطًا شفافًا يصعَدُ للأعلى مِن شَفَتي ولساني.
وأفيقُ وحَلقي كِسرَةُ خبزٍ ناشفةٌ
ولساني كُثبانُ رمالٍ
وشفاهي أطباقٌ مِن فَخَّارْ.

أَحلُمُ بالليلِ ولا تختلفُ الأحداثُ إذا ما الحُلمُ تكرَّرَ،
فالسَّاعةُ عَقرَبُها لا يتحرَّكُ، دَقَّتُها خيلٌ نائمةٌ
هل تَحلُمُ في النَّومِ الخيلْ؟!
مَخلوقٌ ضخمٌ، حَجمِي بينَ يديهِ كحَجمِ العُملَةِ بين يديَّ.
حَواليَّ عناقيدُ نجومٍ تجري
تحتي قمرٌ مُكتَمِلٌ يرسو.
وأُفِيقُ، ولا أتذكَّرُ شيئًا مِن إحساسي
لا أتذكَّرُ ماذا كنَّا نفعلُ
لا أتذكَّرُ إلّا وصفَ الليلْ!

أَحلُمُ بالنَّاسِ كأنْ عيني التقطتْ أكداسَ وُجُوهٍ
وأحاولُ أنْ أتذكَّرَ مَن.
أكداسُ وُجُوهٍ تَألَفُ عالمَها المصنوعَ تمامًا
وتُقَلِّدُ هيئتَها المألوفةَ عندي
وتمامًا تلزمُ ذاتَ الأوصافْ.
وجهي في حُلْمِ الآخرِ-في أكداسِ الصُّوَرِ الموجودةِ-
هل يشبهُ ما أُبصِرُهُ الآنَ بحُلْمي؟
أُبصِرُ وجهي في مرآةِ الحوضِ مريضًا يُنذِرُ بالموتِ؛
أُفِيقُ وأنفاسي قطعانٌ هاربةٌ مِن مَرعاها الجافْ.

أَحلُمُ بالأفعى.
بأفاعٍ شتَّى تَتَلَوَّى أسفلَ جلدي
وتَفُحُّ جوارَ عظامي، لكنْ لا تدخلُ قلبي
تغفلُ عن شجرٍ ومَراعٍ وجحورٍ دافئةٍ وظلالْ.
تزحفُ حتَّى تَتلَفَ أعصابي مِن مَلمَسِها
وأُفِيقُ ودمعي يملأُ عيني
ومكاني -في إثرِ النَّومِ الطَّائرِ- لا أعرفُهُ
وأحسُّ بقلبي
يتقلَّصُ في مَوضِعِهِ
ويُصَلصِلُ كالجَرَسِ الخائفِ في الحالْ.

أَحلُمُ بالبحرِ وأغرقُ فيهِ
ولا أتعلَّقُ بالقَشَّةِ
لا أتعرَّضُ -فَرضًا- لنفادِ الأنفاسِ،
وأسبحُ: حيثُ الماءُ المتلاطِمُ أنعشَ رأسي
والمِلحُ الحارقُ نَظَّفَ -فورًا- بصري
وحراشيفٌ غطَّتْ بدني السَّابحَ كُلّيًّا
وأنا كالسَّمَكِ البارعِ أغطسُ حتَّى ألمسَ قاعي.
وأُفيقُ وكلِّي شكٌّ:
أينَ مكاني؟
ماذا أصنعُ في البَرِّ؟
لماذا تتألّمُ -هذا الألمَ العاصرَ- أعضائي؟
ولماذا أحملُ ذاكرةً أُخرى عنّي، وأحسُّ ضياعي؟!

أَحلُمُ أنِّي عالقةٌ بشِبَاكٍ
يَسهُلُ أن أقطعَها، لكنّي لا أفعلُ.
أُكمِلُ حُلْمي
وأنا صيدٌ يحملُهُ الصَّيَّادُ على كتفيهِ لأهلٍ جَوعَى.
أسمعُ فَرقَعَةَ الحطبِ اليابسِ في النَّارِ،
أرى بوضوحٍ آنِيَةَ الطَّبخِ
وأشعرُ بالسِّكينِ الحادةِ تقطعُ جزءًا مِن لحمي.
وأُفيقُ
وجرحٌ طوليٌّ -مَوضِعَ أسناني فوقَ الشَّفَةِ السُّفلى-
ينزفُ حتّى ذقني،
وأنا كُلّي -لحمًا ودمًا- يَمضُغُني ندمي.

أَحلُمُ أنّي واقعةٌ بالحبِّ،
أُحِسُّ بقلبي يرقصُ تحتَ ثيابي وأنا أتزيَّنُ ثُمَّ أعطِّرُ نفسي.
في مقهًى مُعتادٍ
أجلسُ كالوردةِ في فستاني الصَّيفيِّ
يدايَ على طَرَفِ الكُرسِيِّ
وتلمعُ مثلَ النَّجمةِ عيني.
وأمامي مَن لا أعرفُ مَن سيكونُ، وفي أيِّ الأوقاتِ يَجِيءْ
لكنّي أعرفُ أنّي واقعةٌ بالحبِّ وأنعمُ بالدِّفءِ.
أُفيقُ وقلبي كُتلَةُ ضَوءٍ
لا أتعجَّبُ؛ حين نحبُّ نُضِيءْ

أَحلُمُ بالعالمِ يَضغَطُ مِكبَحَهُ قربَ الهُوَّةِ
كي يتفادى مَصرَعَهُ.
أفعلُ -كي أنجوَ- ما يفعلُهُ العالمُ
لكنِّي الأتعسُ حَظًّا أتردَّى
-ليس متاحًا أن أغرسَ وردةَ قبري بيديَّ
وأنفخَ شمعةَ عينيَّ، وداعًا-
صارخةً ومُعَلَّقَةً مِن قَدَمي في الرِّيحِ
وسربُ طيورٍ يعبرُ بالصُّدفةِ هُوَّةَ موتي آنَ وقوعي.
وأُفيقُ وجسمي قطعةُ ثلجٍ لا تصهرُها الشَّمسُ
وقلبي صافرةٌ ترتاعُ وراءَ ضلوعي.

أَحلُمُ
أنَّ هنالكَ مَن نامَ بحضني طِفلًا، ثُمَّ نَما وتوحَّشَ.
هل كانَ مُحالًا ألّا يتوحَّشَ؟
كنتُ أقصُّ عليهِ صباحًا أحلامي، ورأى أبعدَ منّي
أَبصَرَ فيها ما يجعلُني هَدَفًا سَهلًا:
دائرةً حمراءَ تُحَدِّدُ قلبي..
وهو الماهرُ لم يخطئْ رميَتَهُ.
وأُفيقُ، ويأسي ما زالَ بقُربي
وعلى جلدي دائرةٌ حمراءُ تحدِّدُ قلبي
كنتُ طريدتَهُ أيضًا في حُلْمي:
لم أصرعْهُ هُناكَ
ولم أصرعْهُ هُنا.