من مدينتنا في وسط الصعيد

عابسة ومتجهمة، ومع ذلك تحمل قلبا نادرا وجميلا، تحتضن به العشاق من أبناءها، الذين حرموا من اللقاءات العاطفية، بسبب قسوة الطبيعة، وتجهمها بعصبيات أهلها، في قراها المغلقة، وكراهية أهلها لكل بادرة حب تنمو بين حبيبين، تتعامل مع عشاقها كنباتاتها الجميلة، ولا تقسو عليهم، وتوفر لهم ملاذا آمنا للقاء.

بالقرب من موقف الأرياف, وفي شارعها الرئيسي المزدحم, حيث توجد محالّ بيع الملابس والأقمشة والمانيفاتورة والمكتبات, وأفران تحميص اللب والسوداني, وبيع مستلزمات أعياد الميلاد للصغار, يبدو هذا الشارع الواسع مزدحما بطوابير السيارات والتكاتك والدراجات النارية.

وفي الساحة على ناصية الشارع, حيث ينزل ركاب الأرياف من السيارات الذين ركبوا في صندوقها الخلفي, قادمين من قراهم البعيدة عن المدينة, فينفض الرجل عن جلبابه التراب الذي علق بها, ويسوي شاربه, ويعدل من فتحة الرقبة, ويمرر يده علي شعره, وينتحي جانبا في الشارع بجوار مكتبة, أو محل مزدحم.

وينتظر محملقا في النازلين من السياراتالتي تنزل حمولتها من الركاب, وما أن يري حبيبته بالجلباب الأسود والطرحة السوداء, والكحل في عينيها, وهي تنزل من السيارة القديمة, حتى يسوي شاربه مرة ثانية, ويضطرب في وقفته, وهو يرقبها, ويتابعها, منذ نزولها من كابينة السيارة, ومعها قريبتها أو صديقتها, التي جاءت معها كستار للقاء الغرامي, وزيارة المدينة لشراء مستلزمات طفل يدخل المدرسة, أو عيد ميلاد ابن شقيقها أو شقيقتها, أو حتى شراء شيء يخصها ولا تفصح عنه.

وتستطلع بعينيها المكتحلتين, المنطقة, خشية أن يراها أحد من جيرانها أو قاربها, أو أقارب زوجها, وتسير مع زميلتها, وعندما تراه واقفا بجلبابه الأزرق, يدق قلبها, وتضطرب لحظات, وتبتسم لنفسها, وتخبر صديقتها بأنها ستشتري شيء من المكتبة أو المحمصة, وتفهم صديقتها, فتبتعد عنها, علي وعد أن تلتقيا بعد فترة, في الموقف عند العودة, وتنفصل عنها, قبل أن تقترب منه.
يكون هو رآها, وأيقن أنها هي, وتقترب منه وهي تنظره مرة أخيره أحولها, فيمد لها يد ترتعش بالشوق, ويمسك يدها, ويتبادلان النظرات دون كلام, وتنسي يدها في يده, ويضغط عليا ويضمها, ويداعب أصابعها, ويرسل عبرها, إشارته الجنسية, فتنظر إليه بحياء وشبق, وتلومه, لأنه لم يسأل عنها, ويخبرها أنه حاول مرات, ولكنها لا ترد عليه, ويمشيان معا خطوات, ويدها لا تزال في يده, حتى محل العصير.

ويوقفها بعيدا عنه, ويزاحم زبائن المحل, ويدفع ثمن كوبين من عصير المانجو, أو القصب, ويحمل الكوبين بين يديه, ويناولها واحدًا , فتمسك الكوب, ويبدأ في مغازلتها, فتستمع إليه, وبعد أن ينتهي من المغازلة وكوب العصير, تناوله كوبها, فيمسك يديها بالكوب, وتتقارب النظرات والهمسات.

ويتمنى لو أسعفته المدينة, فأخلت له الشوارع من زحامها, وأن تعمي الناس, ويقترب متوهما أن الشوارع قد خلت, ولكنها ترده لوعيه بضغطه من أصابعها على شفتيه لتبعده, ويسألها عن أولادها, فتشكر له اهتمامه, وتسأله عن أولاده, ولا يتطرقان أبدا لا إلى زوجها, ولا زوجته.

إنه حب عقيم, إنه حب نما بين أغصان السنط والصفصاف, وجنبات الحقول, منذ كأنا صغار, ولم تسامحهما الطبيعة, فترسل لها عريسا جاهزا, ويبكيان كل منهما في فراشه.

وسرعان مان ينسيان الفراق, ويترقبان الانفراد لحظات, في أزقة المدينة وشوارعها, وتتسامح معهما المدينة, فترخي لهما لحظات يتبادلان فيها الغرام, وتشتري من نفس المكان ما جاءت ويخرج المحفظة, ويخرج من طياتها كارت شحن, فتتمنع, ولكنها تأخذه منه, ويقبض علي يدها مرة أخيرة, وهو يناولها, فتخبره أنها لا تستطيع أن تتكلم, لأنها محاصرة بأم زوجها, التي تجلس لها كالعقرب.

اللواء حمدي البطران..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى