بعد الآن .. لا أحد يستطيع التخفي، ولا أحد يمكنه بذل الجهد الأكبر لكي يتعرف على سلوك، أو يطلع على مكنون، أو يتتبع ما خفي من تصرفات، العالم أصبح مكشوفًا، والإنسان صار كتابًا مقروءًا، سطوره تتحدث عن أصحابها، وفراغاته باتت مملئة عن آخرها بالأحداث والتحركات والممارسات الإنسانية.
في الماضي كان يمكن لأي شخص أن يتخفى لكائن من كان، أن يذهب لأبعد مكان في العالم بعيدًا عن أهله وناسه، ثم يعود بقصة مختلقة من خياله بأنه كان هنا أو هناك.
اليوم تغير الوضع وأصبح الإنسان مفضوحًا، تحركاته مكشوفة، وكلماته محسوبة، وتصرفاته المالية معروفة، بل وأنفاسه معدودة.
التقنية الفارقة لم تترك إنسانًا إلا وتتبعته، بل وتعرفت على سلوكياته، وهو يدفع فاتورة الكهرباء والسوبر ماركت والهاتف النقال وتذكرة الطائرة أو القطار عند السفر، أو عند شراء أي شيء .. أي شيء، هنا يمكن قياس سلوكيات المجتمع، وهنا نستطيع أن نؤكد بأن هذه التكنولوجيا ما بعد الفائقة تستطيع أن تسير حركة الكون وإنسانه الذي اكتشف ما لم يكن في الحسبان، فأصبح كل شيء معروفًا وربما مفهومًا، وربما مكشوفًا أو مفضوحًا، وحتى حبة العدس التي كانوا يقولون بأن العالم أصبح أصغر منها، أصبحت هي الأخرى أضيق من أصغر خلية حية على هذا الكوكب العجيب.
هذا كله يقودنا إلى ضرورة بل وأهمية التعامل مع المستقبل الجديد، مع المعلوماتية في أعقد أطروحاتها، وأدق مجريات أمورها، ثم مع مشاكلنا التي قد تنشأ نتيجة هذا الانكشاف على العالم بأسره، وعلى المسموح والممنوع في آن واحد.
لقد بات علينا أن نتعامل مع هذا الواقع المفتوح تمامًا بالحنكة والحكمة والآليات المتوازنة والمتوازية المطلوبة.
المطلوب من جامعاتنا مثلاً أن تلعب دورًا تنويريًا وتثقيفيًا لشبابنا، أن يكونوا على علم ودراية كاملين بانعكاسات التقنية الما بعد الحديثة، والتكنولوجية الأقصى من ما ورائية على سلوكياتنا، على تصرفاتنا بحيث نكون أكثر حرصًا من ذي قبل، وأن نعلم بأن جميع سلوكيات.
وربما المخجل من تصرفاتنا مراقب بفعل فاعل هو الذكاء الذي اصطنعناه بأيدينا وأطلقنا عليه بعد ذلك بالذكاء الاصطناعي، المطلوب من الجامعات دورًا توجيهيًا وتعريفيًا بأهمية إتقان التكنولوجيا وعدم اللعب معها أو اللعب عليها، والمطلوب كذلك أن تكون مشاكلنا المجتمعية في قبضتنا وتحت رحمتنا لا أن تكون تحت رحمة وفي قبضة علوم تتطور بأقصى سرعة، وتنمو بوتيرة فائقة قد تفوق تصوراتنا أو توقعاتنا بشأنها.
الجامعات ستظل مراكز إشعاع حضاري وعلمي، وحماية سلوكيات المجتمعات المتحضرة أصبح في عهدة تشريعات أكثر من مواكبة، أدق من متعاطية، وأكثر قدرة على حماية هذه المجتمعات من سلوكيات بني البشر خاصة وأن الانفلات والانفلات المضاد، وعناصر من هذا الانفلات قد تكلف مجتمعاتنا الكثير، بل وقد تضعنا جميعًا أمام التحدي الكبير، هل نستطيع التعامل بحكمة ومسئولية مع ما نواجهه من متغيرات، وما نتعرض له من انكشافات، وما قد يأتينا من نتائج لم نكن مستعدين تمامًا لها؟
إن امتلاك الجاهزية والإعداد العقلي والبدني لمواجهة هذه المتغيرات أصبح من الأهمية بمكان، بحيث نكون متسلحين بالعلوم الكفيلة بحمايتنا مثلما هي قادرة على تسهيل الحياة اليومية لنا، أن نكون عارفين بمخاطرها قبل أن نكون مدركين بضرورة الاستمتاع بها، “ولله في خلقه شئون”.