ورشة الزيتون.. حضن ” التجمع” ومبكى المثقفين

لم تكن صدفة خير من الف ميعاد ، تلك المظلة التي لعبت دورا في الحياة الثقافية والعامة منذ ٤٥ عاما وحتى الان ، لم تكن مولودا غير شرعي ، او طفلا شريدا في حواري وازقة مصر القديمة، لكنها ملتقى المثقفين ومبكاهم، حضن ” التجمع ” وظله الظليل، الحالة الوطنية والواقع الثقافي، المنتدى والمقر، المطاف والمستقر، أنها ورشة الزيتون في شرق القاهرة، هي الحاضن للنخب والمطاريد، للمرفوضين والمعارضين والذين رفضوا مسك العصا من المنتصف او الرقص علي سلالم السلطة المتحركة.

لم تكن سوى مكان على ” قد الحال “، وموقع آيل للزوال، ومحطة قد تغادر مع اول قطار، مؤسسها ومعاصرها والشاهد الأكثر ابصارا المؤرخ والشاعر الكبير شعبان يوسف يتحدث عن رفيقة دربه، عن مشوار عمره الجميل، وعن مسيرة دروبه التي ابت الا ان ترعى مريديه ومرتديها ، الا ان ترحب بضيوفه وضيوفها والحالمين فيها، اجرينا معه حوار من طرف واحد، كلمة ورد غطاها، أو سؤال يحمل جميع الأسئلة: حدثنا يا عاشق الورشة عن الزيتون وورشتها، عن حزب التجمع ومقره في اطراف العاصمة، وعن الادباء والمثقفين، عن الروائيين والشعراء، عن الشيخ امام ، ورفيق دربه أحمد فؤاد نجم، عن المشاهير والنجوم والذين بدأوا حياتهم الأدبية متخفيين بين دهاليزها، ومتسترين خلف جدرانها ، حدثنا يا صديقنا الوفي عن محبوبتك، وسنترك لك المجال ولن نقاطعك كي تتحدث عنها وحدك: ورشة الزيتون.

فى منتصف عام 1979، كانت الحياة الثقافية فى مصر تضج بحالات من التذمر السياسى، وبالتالى الثقافى والفكرى، وكان الشعراء والأدباء عموما شبه مطاردين، وكانوا ينشرون إبداعاتهم وكتاباتهم فى مجلات عراقية أو لبنانية، أو كويتية، أو بحرينية، وعدا ذلك، كانت نشرات الماستر منتشرة جدا فى كافة أنحاء مصر.

وكانت هناك بعض المنتديات التى يستطيع الكتّاب أن يعقدوا فيها ندواتهم، منها أتيليه القاهرة، أو قصر ثقافة السينما، أو المقاهى التى كان يجلس عليها كتّاب الستينات مثل ابراهيم فتحى وابراهيم وغيرهم، وفى الحقيقة لم أستطع الاستمرار فى تلك التجمعات النخبوية جدا، وحدثت صدفة سياسية ما جعلتنى أذهب إلى حزب التجمع فى شرق القاهرة، لألتقى هناك برجل عظيم اسمه فخرى لبيب، كنت أعرف عنه الكثير من سيرته السياسية، ولكنه بالإضافة لذلك، كنت قد قرأت له ترجمات أدبية ممتازة، مثل “جوستين”، وهى الجزء الأول من رباعية “لورانس داريل”، ثم استكمل ترجمة الثلاثة أجزاء الباقية، ثم قرأت ترجمته لرواية “عريان بين ذئاب” للكاتب الألمانى برونو أبيتز، وتحدثنا طويلا فى ذلك اللقاء بعد أن أزحنا الأمور السياسية جانبا، تناولنا فيها الحديث عن الحياة الثقافية بكل تفاصيلها المعقدة، ووصلنا إلى اتفاق لعقد ندوة أسبوعية تحت مسمى “النادى الأدبى الثقافى”.

بدأت منذ ذلك الوقت أوجه الدعوة للأصدقاء من جيلى، فهم الأقرب، رغم أنهم كانوا مندهشين من أننى تركت وسط المدينة، وقررت عقد ندوة فى إحدى ضواحيها، حيث كان المثقفون شبه متمركزين فى وسط القاهرة، فى البداية كان الحماس قليلا، ولكن مع الاستمرار المنتظم، ومع جدية الندوات والمناقشات، بدأت الندوة تأخذ مسارا طبيعيا فى ندوات القاهرة، بل إن الإقبال على الندوات أصبح أكثر من ندوات المركز، حيث عقدنا ندوات عن مجلات الماستر، وحضر كتّاب من طراز صلاح عيسى، وفريدة النقاش، وسيد البحراوى، ولطيفة الزيات يترددون على المكان، بالإضافة إلى الشيخ إمام العظيم الذى كان يأتى بشكل شبه منتظم لإنشاد بعض الأغانى التى كانت تجذب لنا محبيه.

منذ ذلك التاريخ الذى فاق أربعة عقود، لم ينقطع نشاط الورشة التى اتخذت ذلك الاسم بعد أن توسع دورها، وأصبحت تشعل جذوة تدريب المبدعين والنقاد على الحوار، كثير من النقاد والمبدعين جلسوا لأول مرة على منصة الورشة، وبعدها انطلقوا لكى يشاركوا فى ندوات ومؤتمرات محلية ودولية وعالمية.

ولم تقتصر الورشة على استضافة الكتّاب المصريين فقط، بل كان كثير من الكتّاب العرب يحرصون عند زياراتهم للقاهرة على عقد ندوات لمناقشة نصوصهم فى الورشة، هكذا عقدت الورشة ندوات لمحمد الفيتورى ونبيل سليمان وهدى النعيمى ورمضان الرواشدة وهوشنك أوسى وبثينة خضر مكى وسوزان كاشف وميسون صقر ولينا الطيبى وموسى حوامدة وغيرهم.

أصدرت الورشة كراسات ثقافية لنشر الدرايات النقدية التى كان يلقيها النقاد فى الندوات، بالإضافة إلى نشر بعض الإبداعات، ولأن الورشة لم تلجأ إلى طرق التمويل، فكانت الإصدارات الثقافية تشكل عبئا ماليا على روادها، فاكتفينا بإقامة الندوات الثقافية التى لم تتوقف، وفى البداية كنا نستضيف نقادا أكاديميين، وبعد ذلك أقلعنا عن الالتزام الصارم بذلك المبدأ الذى كان يشكل عائقا فى بعض الأحيان لانشغال هؤلاء الأكاديميين بجامعاتهم، فبدأنا نكلّف المبدعين الذين يداومون على الحضور.

من هنا اكتسبت الورشة جدية واسعة وكبيرة، وصدر كتاب توثيقى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ شهور قليلة، أعده الدكتور محمد ابراهيم طه، وهو من المسئولين الكبار فى الورشة، وعقدت بضعة ندوات وحلقات تلفزيونية لمناقشة الكتاب، ولذا تعتبر الورشة إحدى النماذج التى ضربت مثالا قويا للثقافة المستقلة، وسط كثير من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.