لماذا أختفت القصيدة الوطنية؟.. شعراء يجيبون

اختفت القصيدة الوطنية، لم نعد نسمع ما يستفز مشاعرنا كمصريين، أو يخرج بنا من سباتنا العميق، استنهاض ضمير الأمة من خلال الأغنية أو القصيدة الوطنية أصبح عصيًا في تلك الأيام، لا نرى ولا نسمع مطربًا يجلجل في الفضائيات أو الإذاعة أو حتى السوشيال ميديا.
وحتى أننا لم نعد نقرأ في صحفنا اليومية إلا عما كتبه شعراء كبار في خمسينيات وستينيات القرن الماضي أمثال: صلاح جاهين وأحمد شفيق كامل، فؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم الكثيرين، أصبحت الأشعار هباء منثورًا ووطنية الشعراء مؤجلة حتى إشعار آخر.

لماذا يا ترى هذه الحالة؟ وأين وكيف اختفت القصيدة الوطنية في غفلة من هذا الزمان؟ موقع “مباشر 24” يفتح هذا الملف المغلق للقصيدة الوطنية، تلك التي كانت تغنى من أباطرة لا يتكررون وعمالقة لن يجود الزمان بأمثالهم.

الشاعر قدوره العجني: القصيدة الوطنية موجودة وبقوة
من جانبه، قال الشاعر والباحث قدوره العجني، عضو إتحاد كتاب مصر، بما أني متخصص فى الشعر الشعبي البدوي أو العامي بلهجة أهل البادية في مصر، أرى أن القصيدة الوطنية لم تختفي مطلقًا حتى الآن بل هي موجودة وبقوة وتأخذ أشكال متعددة وتتطور مضامينها حسب الحاجة والظرف ولكنها لا زالت موجودة في هذا اللون الشعري.

وأضاف أن القصيدة الوطنية في الشعر العامي لا أعتقد أنها اختفت بالكلية ولكنها أخذت شكل النقد أكثر من المدح التقليدي فيما اتصور، فعندما ينتقد أحدهم الحكومة أو السلطة لأنها استلمت وطنا ودولة لها من المقدرات كذا وكذا من المدح ولكنها فشلت في إدارتها فهو شكل نقدي في قالب قصيدة وطنية، وقد تكون مرمزة حتى يسهل تأويلها عند الضرورة، أما في الشعر الفصيح فقد تكون موجودة بالشكل الأخير المليئ بالترميز والألغاز.

وأكمل: لكن الشكل التقليدي التاريخي هو الذي اختفى من الفصحى أما في الشعر البدوي فيوجد الشكل الحديث والشكل التقليدي لم يختفي أيضا من ما تابعت وعمومًا البحث جاد ومهم وملفت أحييك عليه وأشد على أياديكم واشفق عليكم لأن نتائج البحث قد تكون شائكة ومفاجئة وصادمة أحياناً عندما تجد أن قصيدة ما لها شكل عاطفي صرف ولكن تأويلها يذهب في اتجاه سياسي أو وطني مختلف تماما.

وتابع: ويستتبع هذا قواعد الرمزية المعروفة في الشعر والتي اختفى جزء كبير منها وأصبح لكل شاعر رمزياته الخاصة التي لا تخضع للقواعد وانما لكل شاعر أن يأول لنا مقصده حسب هواهدون أن يكون عند المتلقي أي مفاتيح لفهم النص وأغراضه وتداخلت الأمور والاغراض الغزلية والوطنية وقد يصل البحث إلى نتائج مهمة في ناحية وجوب العودة إلى قواعد للقصيدة الرمز عوضا عن ترك التاويلات دون ضابط أو رابط.

الشاعرة رضا أحمد: هناك غياب لمفهوم الوطن في العصر المفتوح

وترى الشاعرة رضا أحمد، اعتقد أنه ليس غيابا للقصيدة الوطنية بقدر ما هو غياب لمفهوم الوطن في عصر النوافذ المفتوحة، فالقصيدة الحديثة ليست قصيدة أغراض ولا مناسبات أو مجرد تسجيل أحداث ورصد تغييرات يمر بها الوطن كعرض تاريخي مؤقت يجب تسجيل الحضور فيه أو كخريطة تتنازع بين عدة جهات حسب مصالحهم السياسية ويجب أن أثبت حقي فيها وبالأدلة أو قطعة إرث غالية يخشى على حدودها من العدو.

وتابعت: فالعدو صار الآن بفضل عدم النضج والجهل بحرية التعبير والديمقراطية ليس الغريب، انما هو جارك الذي يختلف معك في وجهة النظر في ظل مناخ سياسي واجتماعي معقد يشوبه صراع ايديولوجي وتشوش معرفي حول استحقاق المراكز الاجتماعية والظهور على حساب مصير الوطن منذ ثورة يناير على الأقل.

وأشارت إلى أن القصيدة الحديثة في معظمها لصيقة بالإنسان العادي المواطن المطحون الغارق في طموحاته البسيطة والذي يسعى للخروج من يومه بأقل الخسائر والذي تثقله ظروف المعيشة الصعبة عن التنفس باطمئنان، قصيدة التفاصيل والهامش واللحظة العابرة وتراكم الخسارات ابنة وديعة لحركة الزمن السريعة والتغييرات الكبرى في العالم التي تؤثر في أدق تفاصيل إنسان اليومي والمعيش.

وأضافت رضا أن القصيدة قديما كانت مرتبطة بالخطابة وحركات التحرر من الاحتلال والحروب الدامية والحنين الجارف إلى الوطن خلال قطيعة طويلة اضطر إليها أو قصيدة حزبية أو مرتبطة بأحداث سياسية ومفصلية في التاريخ، ولكن بصدق الغائب هنا هو اللغة الزاعقة في الخطاب الشعري، فأنت الآن لا تخاطب الجماهير فوق منبر بل تتواصل مع أصدقاء على منصة تواصل اجتماعي في نسق إبداعي يكاد يخلو من المتن المتعالي والشاعر النبي والفارس النبيل أو المناضل الوطني.

وأكملت: مشهد يومي بسيط حين تباغت فيه الآخرين بكلمة وطن يكون في سياق ما يطلبه النص وليس بشكل انفعالي أو مصطنع كما كان في الماضي، الوطن إذا ليس غائبا أنما الغائب هنا القصيدة التقليدية المغناة التي تعتمد على الأغراض الشعرية الواحدة وليست التفاصيل المكثفة والهامش الإنساني بكل همومه وأزماته.

وأوضحت أنه يكاد المشهد الشعري الآن يخلو من تلك القصائد ذات الأغراض حتى القصائد التقليدية منغلقة على نفسها في معظمها تكرارًا للقديم سواء في الأفكار أو البنية المعرفية والجمالية أو الشكل المشهدي لقضايا كبرى يتم استدعائها غصبا، والوطن في هذا العصر ضائع في القصائد بين تفاصيل كثيرة حتى لو لم يتم ذكره صراحة أو التغني بأمجاده وحظوة ماضيه فهو موجود ومهيمن في كل تفاصيل القصيدة.

ونوهت بأن الأمر هنا لا يقاس بكتلة مصمتة تكتب فوقها عنوانا للوطن، بل هو تراكم الشعور بالاغتراب داخل بيتك نفسه الذي لم يعد وحده الملاذ الآمن بل ابتلع هذا الواقع الافتراضي الكثير من براءة هذه المشاعر وتوظيفها إبداعيا فصارت مجرد منشورا على مواقع التواصل الاجتماعي تعبر فيه عن ما يؤرقك أو تختزل غضبك في كوميك خفيف تسخر فيه من حدث ما.

وفي ظل مشهد سياسي مغلق وحوار وطني يفتقد احترام حرية التعبير وقبول الاختلاف في وجهات النظر لك أن تتخيل حين تبدي اسفا على حدث سياسي ما سوف يتم التعامل مع قصيدتك على انها ذات غرض عدائي وموجهة ضد الوطن ويضيع الهدف الحقيقي من الكتابة وهو الرغبة في التعبير وترك أثر”.

رحال مبارك: هناك أسباب كثيرة لاختفاء القصيدة الوطنية

بينما قال الشاعر المغربى رحال مبارك حديد، إنه يجب أن نحدد مفهوم “القصيدة الوطنية”.. هل هو بمعنى “الوطن/الدولة” أم بمعنى “الوطن/الأمة” أو “الوطن/القضية” إن حصرنا القصيدة الوطنية في مفهوم الوطن/الدولة فأعتقد أنه يمكننا التحدث عن الاختفاء، ذلك أن القصيدة الوطنية بهذا المفهوم ربما تكون بدأت في الاختفاء مع استقلال الدول وخبو شعلة الوطنية في مواجهة الاستعمار.

وأكمل: فنحن نذكر أن القصيدة الوطنية ازدهرت مع شعراء عاشوا ما عاشته شعوبهم من ويلات الاستعمار، فانبرى هؤلاء الشعراء يحثون الهمم ويشدون العزائم حتى أصابهم هم أنفسهم من مكر المستعمر الكثير، هكذا كان حال أمير الشعراء أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، ولي الدين يكن، البارودي، أبو القاسم الشابي، مطران خليل مطران، على الغاياتى، السياب، أحمد نسيم، أحمد زكي أبو شادي.

ولافت إلى أن هناك كثيرين سخروا شعرهم لتحريك مشاعر الجماهير أو للتنديد بالخونة والمناصرين للمستعمر، بل إن كل صاحب قلم في تلك الفترة كان شاعر وطنية.. حتى المنفلوطي دخل السجن ستة أشهر من أجل قصيدة، وبعض قصائد هؤلاء لا زالت حاضرة في الأذهان (مثلا “إن تسألني عن مصر” لشوقي.أو “مصر التي في خاطري” لأحمد رامي”إذا الشعب يوما أراد الحياة” للشابي).

وأضاف”رحال” وقد يكون هذا النوع ترك مكانه لقصيدة “وطنية سياسية” تعبر في الحقيقة عن وجهة معارضة للسلطة القائمة أكثر من تعبيرها عن حالة وطنية.. وفي هذا الشأن يمكن أن نصنف مثلا شعر عبدالوهاب البياتي و مظفر النواب وآخرين..إن حصرنا القصيدة الوطنية في مفهوم”الوطن/القضية” والذي يمثله بامتياز الشعراء الفلسطينيون وعلى رأسهم محمود درويش فأعتقد أنها لم تختف وستظل موجودة ما دامت القضية موجودة..

وتابع: إن وسعنا المفهوم ليسع القصيدة الوطنية بمفهوم “الوطن/الأمة” فيمكننا القول بأن هذا النوع من الشعر لم يختف، ولا يمكن أن يختفي مادام هناك شعراء يحملون ويحمون انتماءهم لأمتهم ويقدمونه على كل انتماء.. قد يكونون محدودي العدد ولكنهم بالتأكيد موجودون.

وأكمل: وبكل تواضع أعتقد أن أغلب فصائدي في دواويني الاثني عشر المنشورة أو في باقي المخطوطات هي من هذا النوع، وأنا أحاول أن أتعرض فيها (دون تجريح ولا تشهير) إلى كل ما تعيشه الأمة في وقتها الحالي (القضية الفلسطينية.. حصار وتدمير سوريا، مشكلة اليمن، العراق، التآمر الخفي على مصر ومكانتها في الأمة.. الصراع المفتعل بين البلدان العربية..الخ)..

وكشف عن أسباب الاتجاه إلى اختفاء القصيدة الوطنية، حيث يعود إلى عدة أمور وهى: ضعف الانتماء الوطني لأسباب كثيرة أهمها إهمال أنظمة التعليم الوطني لبناء هذا الانتماء بدءا من المرحلة الابتدائية.. علما بأن هذا الانتماء أصبح في أغلب الأحوال غائبا عن الفضاء الأسري.

ثانيًا التخريب والتغريب الثقافي الذي تتعرض له الأمة العربية من طرف الغرب أساسًا والذي يهدف إلى مسخ الشخصية العربية وفصلها عن تاريخها الحضاري وربطها بثقافة التفاهات وعدم الاستقرار الفكري وصولا إلى شخصية نمطية تستعير الفكر السخيف الملتقط عبر وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي.

وحين نتحدث عن وسائط التواصل الاجتماعي نتحدث عن مصيبة أخرى، اختلط الحابل بالنابل وأصبح كل من سولت له نفسه أن يصبح شاعرًا ينقل جملة من هنا وجملة من هناك وينشر “قصيدة”.. طبعا لا يمكن أن ننتظر من مثل هؤلاء الذين أصبحوا “متشاعرين” بقدرة قادر دون موهبة ودون امتلاك ناصية اللغة ودون إلمام بعلوم البيان (لا يمكن أن ننتظر منهم).

وأن يحملوا قضية أو تكون لهم رؤية ثقافية وادبية، وبالتالي لا يمكن أن يعطونا قصائد وطنية تحمل هموم الوطن والأمة..طغيان النزعة الذاتية وارتباطها بحب الظهور والبحث عن حضور وهمي لحظي (“وهم الزبد”).. فهَمُّ الكثيرين أن ينشروا ويظهروا، وهذا الفيضان الإعلامي يتسبب في ضياع الشعر الجاد الملتزم بقضايا الوطن والأمة وبقضايا الإنسان.. ويمنع بروز الأقلام الجادة.

ثالثًا: لم يعد هناك مؤسسات أو تظاهرات تشجع هذا النوع من الأدب وتبرزه، بل إن بعض “المنظومات شبه الثقافية” تشجع أدب الخواء، والمثل الأبرز بعض المسابقات التي تحشد لها الجوائز والإعلام وهي أنشئت بالأساس لصرف الأدباء عن الأدب الجاد الملتزم بقضايا الأمة.

وأغلب من يشاركون فيها يشاركون بقصائد غزلية مكرورة المعاني أو بقصائد تقنية المعاني وهذا قد يعجل باختفاء القصيدة الوطنية، أو يدخلها في سبات..وقريبا من هذه الجوائز تلك “الجوائز الغريبة” التي تعطى يوميا للكثيرين تحت مسميات لا حصر لها من الإطناب والألقاب والشواهد الفخرية لأشخاص لا يحسنون تكوين جملة مستقيمة، أصبحنا في سوق غثاء أدبي لا يعلم إلا الله أين يمضي بنا.

اقرأ ايضًا:

حكاية أول فيلم سينمائي غنائي في تاريخ السينما العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى