عبد الحميد البطاوي يكتب: الصحابة وشهر الصوم

إن الله تبارك تعالى فرض علينا صيام شهر رمضان أياما معدودات ولم يفرض شهورا متتاليات قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”، فلرحمته بنا خفف عنا جل جلاله وعظم سلطانه ومن رحمته بنا شرع لنا ما يقربنا إليه ومن حكمته العظيمة أن الصيام في شهر عربي يدور في الفصول المختلفة من صيف حار وشتاء بارد من نهار طويل ونهار قصير لفوائد عديدة منها أن العبد يأخذ الأجر على قدر المشقة بل سيجزى بأحسن ما كان يعمل “وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ”.

وأيضا ليعم الخير على جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فالكل يشارك الصيام بطريقة متساوية على مر الزمن و لأننا نصوم رمضان في هذه الفترة شديدة الحر فلنتذكر أن الثواب على قدر المشقة والتعب, ومما يضاعف الثواب ويزاد الأجر فيه من العبادات في شدة الحر من الطاعات عبادة الصيام لما فيه من ظمأ الهواجر, ولنقتدي بسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين في تنافسهم في الطاعات نعم كان شعارهم وسارعوا إلى مغفرة من ربكم” ” وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”.

قال وُهيب بن الورد : “إن استطعتَ ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل” وقد روى عن السلف قصصا كثيرة في التزامهم و مدوامتهم على الصيام في شدة الحر و كابدوا في صيامهم الجوع والعطش ، منفذين أمر الله تعالى و مستبشرين بالأجر العظيم قال تعالى:”إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”.

والصوم أجره من الله الذي يجزى به قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا: ” كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ” متفق عليه فالصحابة كانوا كثيري الصوم ونذكر بعض أخبارهم لعل الله ينفعنا بها قد كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كثير الصيام، روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح منكم اليوم صائماً؟»قال أبو بكر: أنا.

و هذا معاذ بن جبل كان يكثر من الصيام في الحر ولما قرب موته إذا يتأسف على ما سيفوته من ظمأ الهواجر ! و كان أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه يتوخى اليوم الحار الشديد الحر فيصومه ففى مسند البزار ” كان أبو موسى الأشعري في سفينة فسمع هاتفا يهتف: يا أهل المركب قفوا يقولها ثلاثا فقال أبو موسى: يا هذا كيف نقف ألا ترى ما نحن فيه كيف نستطيع وقوفا.

فقال الهاتف: ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه ؟ قال: بلى أخبرنا قال: فإن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار كان حقا على الله أن يرويه يوم القيامة . قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله موثقون. وقال المنذري في الترغيب والترهيب :إسناده حسن إن شاء الله. ابن أبي مليكة قال: “كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح يوم السابع وهو أليثنا”.

وقالت عنه أمه أسماء بنت أبي بكر: “قوام الليل، صوام النهار، وكان يسمى حمام المسجد”. والأمر لا يتوقف على الرجال بل قد تسابقت الصالحات القانتات فى ذلك هذا و كانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه فيقال لها في ذلك فتقول : إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم فهذه أم المؤنين حفصة كان كثيرة الصيام فقد\ روى الحاكم “أن النبي -صلى الله عليه وسلم-طلق حفصة بنت عمر، فلما جاء تجلببت فقال: «قال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة” وهذه نفيسة بنت الحسن رضي الله عنهما كانت تكثر من الصيام، حتى قيل لها: “ترفّقي بنفسك -لكثرة ما رأوا منها.

فقالت: كيف أرفق بنفسي؟ وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون. وقد توفيت وهي صائمة، ويوم وفاتها ألزموها الفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائمة، أأفطر الآن؟ هذا لا يكون،
حتى فاضت روحها رحمها الله تعالى.

الدكتور عبد الحميد البطاوي، استاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين بالمنوفية