د. حسام بدر يكتب: العبادة في بلاد الواق واق
“اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ”، الكتاب كما ورد في التفسير هو القرآن، والميزان هو إعمال العقل الإنساني، الذي يزن الأمور بدلائله، من الآيات الآفاقية والنفسية، والاعتبارات الشرعية، والمناسبات والعلل، والأحكام والحكم..
يزنوا به ما اشتبه من الأمور، فالقرآن إذاَ والعقل متلازمان، للتعامل مع مستجدات العصر والآوان، ومن خلاله يتم تجديد الفكر الإسلامي، ضمنه الخطاب الديني.
انظر – أنظر إلى منْ؟ أنظر إلى ماذا؟ إلى الكهنة ودا ويعوق ويغوث وسواعا، كيف كانوا يوحون إليه، الجحود لمن الكون بين يديه، فانطلى الخداع عليه، لا يرى إلا ما يري ودا الذي لا وُد له، ولا يسمع إلا صوت يغوث غير المغيث، ولا يخشى إلا عقاب الضباع أبناء سواع، وسجن نفسه بين أسوار يعوق، الذي عاقه أن يفكر، منعه أن يقرر، أن العقل حرية ومنحة إلهية؛ لقد فعلوا به سحرا، فما نطق إلا كفرا، كان من الغوغاء، صنعه أباطرة المقدس فصنعهم.
المشهد عظيم والشعور أليم، في بحر لجي والموج غامر، الأب ينادي: بني لا تقامر، لا عاصم اليوم من أمر القادر، يا أيها المفتون بالبهتان والزور لقد فار التنور. الفتى المغرور على أبيه يثور ” سآوي إلى جبل يعصمني من الماء”، يا بني لقد “انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم، وانفتحت طاقات السماء” بأمر العليم.
في لحظة خاطفة، ليس لها من دون الله كاشفة، الموج الهادر، كالوحش الكاسر، بين أنيابه كان المغرور من المغرقين، نظر الأب المكلوم إلى السماء “إن ابني من أهلي”، جاء الرد لا تكن من الجاهلين. لقد عبد الأحجار ، سجد للأشخاص، قدس الأفكار، فقد عقله تمزق ذهنه، بسحر كهنة المقدس مفتون، يا له من مغبون مجنون!
قص الشيخ على تلامذته الحكاية، ولهج مرددا “اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ” ثم نظر إلى ملامحهم متفرساً، قائلا في نفسه: في عقولكم جميعا يختبأ بن نوح؛ وتساءل: لما نظل مقبورين بين أفواه كهنة يأبون التجديد، يعيشون في كهف التقليد، لما نظل قابعين بين عقولهم المتكلسة، لما هو جديد متربصة، هل يفعلون ذلك من أجل عرض زائل، أم إلف دائم؟
ويكأنه عبادة للأفكار والأشخاص، ويكأنه الجهل المقدس ! أزمة عقل، عقلٌُ بعقال اعتقلوه، بين أيديهم قرأن صالح لكل مكان وزمان، بيد أن فهم “الكتاب” عنهم قد غاب، وما يسري على أهل العراق يسري على أهل الواق واق.
الدكتور حسام الدين بدر، أستاذ اللغة الألمانية بقسم الدراسات الإسلامية باللغات الأجنبية بكلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر.
